نزار قباني |
ما عاد يمكنُ أن أكون كما أنا ..
أو تكوني أنتِ ،واحدة النساءْ ..
هذا غباءْ ..
ما عاد يمكنُ أن أُكرر دهشتي ..
وحماستي ..
وتوتري العصبي في وقت اللقاءْ ..
أرأيتِ نهراً عاد يوماً للوراءْ ؟؟
لا تغضبي مني ..
إذا حاولتُ أن أضع النقاط على السطور ..
أنا واقعيٌ في مخاطبة النساء ..
ولستُ أخلطُ بين صوتِ العقلِ ،
وصوتِ الشعور ..
كل الظروف تغيرت ..
وتغيرت أصواتنا ..
وتغيرت كلماتنا ..
وتغيرت عاداتنا ..
وتغيرت ..
حتى الوسائدُ ،والمقاعدُ ،والمناضدُ،
والستُورْ ..
ومكانُ أحواضِ الزهورْ ..
إبريلُ لا يأتي إلينا مرتين ..
والبرقُ ليس يضئُ للعشاق يوماً مرتين ..
والشعرُ لا يُتلى على سمع الحبيبة مرتين ..
هذهِ هي الدنيا ..
وليس بوسعنا صنعُ المطرْ ..
في الحلم ،أو تغييرُ هندسةِ القمرْ ..
أنا كنتُ أسكنُ من زمانٍ عند خط الاستواء ..
كانت عنوايني مطرزةً على شفتيكِ ،سيدتي
وأعناقِ الظباءْ ..
واليوم ..لا عنوان لي إلا العراءْ ..
هي حالةٌ مجنونةٌ مرت بنا ..
ببروقها ..ورعودها ..
ورياحها ..وثلوجها ..
هل يا تُري في وسعنا
بعد اعتدال الطقس في أعماقنا
تفجيرُ ألغام الجنون ؟
أنا مدركٌ أني جرحتُك بالحوارْ ..
وجرحتُ نفسي
حين ألقيت الزجاج على حقول الجلنارْ ..
أنا مدركٌ أني انتحرتُ بخنجري
وكسرتُ مصباح النهارْ ..
فإذا ارتكبتُ حماقتي
فلأنني لا أُتقنُ التمثيل من خلف الستارْ ..
أنا خائفٌ من آلة التسجيل ..
من صوتي ..
ومن لغتي ..
ومن شعوري ..
ومن نثري ..
فما جدوى كلامي ؟
وأنا أضعت الذاكرة ..
إني أحدقُ في الوجوهِ ،وفي العيونِ ،
فلا أرى أحداً أمامي ..
وأنا أحدقُ في يديكِ ..
فلا أرى قطناً ..أو عسلاً ..
ولا ما قيل عن ريش النعام ..
وأنا أحدقُ في ملاياتِ السريرِ ..
فلا أرى إلا حُطامي ..
هذا هو التاريخُ يذبحنا ..
فكيف نقرأُ من سيف العصورْ ..
إسبانيا سقطت ..
فلا وردٌ ،ولا آسٌ ..
ولا ماءٌ يُغني في نوافير القصورْ ..
ما عاد يمكنُ أن أُعيد قصائدي الأولى ..
وأرقصُ فوق موسيقي البحورْ ..
ما عاد يمكنُ أن أُعيد لنهدكِ المسحوق ،
أيام الشجاعة ،والتمرُّد ،والغرورْ ..
فعقارب الأيام ،سيدتي ،تدورْ ..
ومواقفي ..
وعواطفي أيضاً تدورْ !!
هذا زمانٌ ضيقٌ ..
صارت به الكلماتُ تبحثُ عن فضاءْ ..
صارت به حريةُ الإنسان تبحثُ عن هواءْ ..
صار اقترافُ الحب فيه جريمةً ..
فتكسرت فيه النساءُ على النساءْ ..
رحل القطارُ ،
ونحنُ ما زلنا على مقهى المحطة جالسينْ
ضاعتْ تذاكرنا ..
ولا زلنا على أرض المحطة تائهينْ
لصقتْ معاطفنا على أجسادنا ..
وتبعثرت مدن الحنينْ
هل نحن حقاً راحلون مع الضحى ؟
أم نحن غيرُ مسافرينْ ؟
رحل القطارُ ،
ولا مكان لنا على هذهِ الخريطة
لا في الشمالِ ،ولا الجنوبْ ..
لا في الصباحِ ،ولا الغروبْ ..
رحل القطارُ ،
وليس يمكننا الذهابُ إلي الطفولة ..
وإلي بياض الياسمينْ ..
ما عاد لي بيتٌ أعودُ إليه ..
في وطن النساءْ ..
أرأيتِ نهراً عاد يوماً للوراءْ ؟؟