لا تسمحوا لمجرد يوم جميل أن يشعركم بأن لديكم حياة سعيدة

0
لا تسمحوا لمجرد يوم جميل أن يشعركم بأن لديكم حياة سعيدة حياتكم جحيم وستبقى كذلك 

#دوستويفسكي

القناع - أدب روسي مترجم ل آنطوني تشيخوف

0
أقيم فى نادى «س» الاجتماعى حفل تنكرى لغرض خيرى.

كانت الساعة الثانية عشرة ليلا، وجلس المثقفون غير الراقصين ــ وكانوا خمسة ــ فى قاعة المطالعة إلى طاولة كبيرة ودسوا أنوفهم ولحاهم فى الجرائد وراحو يقرأون وينعسون، و«يفكرون» على حد تعبير المراسل المحلى لجرائد العاصمة، وهو سيد ليبرالى جدا.

وتناهت من الصالة العامة أنغام رقصة «فيوشكى»، ومن حين لآخر كان الخدم يهرولون بجوار الباب وهم يدقون عاليا بأقدامهم ويثيرون رنين الأوانى، بينما كان الصمت العميق يسود قاعة المطالعة.

وفجأة تردد صوت غليظ مكتوم بدا وكأنه صادر من المدفأة.

ــ يبدو أن المكان هنا سيكون مناسبا، تعالوا هنا يا أولاد! تعالوا، تعالوا!

وفتح الباب، ودخل قاعة المطالعة رجل عريض، ربعة، يرتدى حلة حوذى وقبعة بريش طاووس وقناعا، وتبعته سيدتان مقنعتان وخادم يحمل صينية، وكان على الصينية زجاجة ليكير منبعجة وثلاث زجاجات نبيذ أحمر وبضعة أكواب.

وقال الرجل:

ــ تعالوا! الجو هنا أبرد.. ضع الصينية على الطاولة.. أجلسن ياموزمزيلات! جى فو برى، أما أنتم ياسادة فلتفسحوا.. هيا من هنا! وتمايل الرجل وأزاج بيده عدة مجلات من على الطاولة.

ــ ضع هنا! أما أنتم أيها السادة القراء، فلتفسحوا، لا وقت هنا لقراءة الجرائد والسياسة.. دعوا عنكم هذا!

فقال أحد المثقفين وهو ينظر إلى صاحب القناع من خلال نظارته:

ــ الزم الهدوء من فضلك، هذه قاعة مطالعة وليس بوفيه.. ليس هذا مكانا للشراب.

ــ ولماذا ليس مكانا؟ هل الطاولة تتأرجح أم ربما السقف يتساقط؟ شىء عجيب حسنا.. لا وقت عندى للحديث! اتركوا الجرائد..

يكفيكم ما قرأتم.. أنتم هكذا أذكياء من اللازم، كما أنكم تتلفون أبصاركم وأهم ما فى الأمر أننى لا أريد.. انتهينا.

ووضع الخادم الصينية على الطاولة، وطوى الفوطة على ذراعه ووقف بجوار الباب، وشرعت السيدتان فورا فى تناول النبيذ الأحمر.

وقال الرجل ذو ريش الطاووس وهو يصب لنفسه ليكيرا:

ــ كيف يوجد أناس أذكياء يعتبرون الجرائد أفضل من هذه المشروبات أما أنا فأرى أيها السادة المحترمون أنكم تحبون الجرائد لأنكم لا تملكون ما تشربون به، أليس كذلك؟ ها.. ها!.. إنهم يقرأون! حسنا وما هو المكتوب هناك؟ أيها السيد ذو النظارة، أية وقائع تقرأ؟ ها.. ها! دعك من ذلك ! كفاك تمنعا، أشرب أفضل.

ونهض الرجل ذو ريش الطاووس وانتزع الجريدة من يد السيد ذى النظارة فامتقع هذا، ثم تضرج ونظر بدهشة إلى بقية المثقفين، ونظر هؤلاء إليه.

وانفجر قائلا:

ــ إنك تتجاوز حدودك ياسيدى المحترم، إنك تحول قاعة المطالعة إلى حانة، إنك تسمح لنفسك بالعربدة واختطاف الجرائد من الأيدى! لن أسمح لك! أنت لا تعرف مع من تتحدث ياحضرة المحترم! أنا جيستياكوف، مدير البنك!.

ــ فلتكن جيستياكوف! أما جريدتك فها هى ذى قيمتها..

ورفع الرجل الجريدة ومزقها قطعا.

ودمدم جيستياكوف مصعوقا:

ــ ما هذا ياسادة؟ هذا شىء غريب.. هذا.. هذا غير معقول.

فضحك الرجل قائلا:

ــ سيادته زعلان! آى، آى، أخفتنى! أقدامى ترتعش، اسمعوا أيها السادة المحترمون! كفى مزاحا. أنا لا أرغب فى الحديث معكم.. ولما كنت أريد أن أبقى هنا مع المزموزيلات على انفراد وأريد أن أمتع نفسى، لذلك أرجوكم ألا تحزنوا ولتخرجوا.. تفضلوا من هنا! ياسيد بيليبوخين اخرج من هنا فى ألف داهية! ما لك تقلب سحنتك؟ أقول لك اخرج يعنى تخرج! هيا عجل وإلا أهويت على قفاك!

فتساءل بيليبوخين صراف المحكمة وهو يحمر ويهز كتفيه:

ــ كيف! ما معنى هذا؟! أنا حتى لا أفهم.. شخص وقح يقتحم علينا المكان.. وفجأة يتفوه بهذه الأشياء!.

فصاح الرجل ذو ريش الطاووس غاضبا، ودق بقبضته على المائدة حتى تراقصت الأكواب على الصينية:

ــ ماذا تقول؟ وقح؟ لمن تقولها؟ أتظن أننى ما دمت فى القناع فبوسعك أن توجه لى مختلف الكلمات؟ يالك من مشاغب! اخرج من هنا أقول لك! يا مدير البنك، انكشح من هنا بالمعروف! اخرجوا جميعا، إياكم أن يبقى منكم لئيم هنا! غوروا فى ألف داهية!

فقال جيستياكوف الذى غامت نظارته من شدة الانفعال:

ــ حسنا، سنرى الآن! سأريك! إيه، استدع الشاويش المناوب!

وبعد دقيقة دخل شاويش صغير أحمر الشعر بشريط أزرق على ياقة سترته وهو يلهث من الرقص، وقال:

ــ تفضلوا بالخروج. ليس هذا مكانا للشرب! تفضلوا فى البوفيه.

وسأل الرجل ذو القناع:

ــ من أين جئت أنت؟ هل أنا دعوتك؟

ــ أرجو أن تخاطبنى باحترام، وتفضل بالخروج!

ــ اسمع يا عزيزى.. سأمهلك دقيقة.. وطالما أنت شاويش وشخصية مهمة، فلتسحب هؤلاء الممثلين من أيديهم، مزموزيلاتى لا يعجبهن وجود غرباء هنا.. يشعرن بالخجل، وأنا أريد مقابل نقودى أن يكن فى حالتهن الطبيعية.

وصاح جيستياكوف:

ــ يبدو أن هذا المأفون لا يفهم أنه ليس فى حظيرة، استدعوا يفسترات سبيريدونتش!

وترددت فى النادى:

ــ يفسترات سبيريدونتش أين يفسترات سبيريدونتش

وسرعان ما ظهر يفسترات سبيريدونتش، وهو عجوز يرتدى حلة شرطى، وصاح بصوت مبحوح وهو يبحلق بعينيه المرعبيتين ويحرك شواربه المصبوغة:

ــ تفضل بالخروج من هنا!

فقال الرجل وهو يقهقه من المتعة:

ــ آه، لقد أرعبتنى! أى والله أرعبتنى! أقسم لكم إننى لم أر شيئا رهيبا كهذا! شواربه كشوارب القط، وعيناه جاحظتان.. ها.. ها.. ها! ها.. ها.. ها!.

فصاح يفسترات سبيريدونتش بكل قواته واهتز بدنه:

ــ ممنوع الكلام! اخرج من هنا! سآمر بطردك! وارتفع فى قاعة المطالعة صخب لا مثيل له، كان يفسترات سبيريدونتش يصرخ ويدق بقدميه وقد أحمر كسرطان البحر، وكان جسيتياكوف يصرخ، وكان يبلويبوخين يصرخ، كان جميع المثقفين يصرخون، ولكن غطى على أصواتهم جميعا صوت الرجل ذو القناع، الغليظ الأجش، وبسبب الهرج العام توقف الرقص، وتقاطر الناس من الصالة إلى قاعة المطالعة.

ولكى يظهر يفسترات سبيريدونتش هيبته استدعى جميع رجال الشرطة الموجودين فى النادى، وجلس ليكتب محضرا.

فقال ذو القناع وهو يدس أصبعه تحت القلم:

ــ اكتب، اكتب، يالى من مسكين، ترى ماذا سيحدث لى الآن؟ يا لحظى البائس! حرام عليكم ما تفعلونه بيتيم مثلى! ها.. ها.. ها! حسنا، ماذا؟ هل محضرك جاهز؟ هل وقع الجميع؟ فلتنظروا الآن إذن!.. واحد.. اثنان.. ثلاثة!.

ونهض الرجل ومد قامته بطولها ونزع القناع عن وجهه، وبعد أن كشف وجهه الثمل وطاف بنـظره الجميع مستمتعا بما أحدث من تأثير، تهاوى على الكرسى وقهقه بفرح، وبالفعل كان التأثير الذى أحدثه غير عادى، تبادل المثقفون النظرات فى ارتباك وامتقعت وجوههم، وحك بعضهم قفاه، ويحشرج يفسترات سبيريدونتش كالشخص الذى ارتكب عفوا حماقة كبيرة.

لقد عرف الجميع فى هذا الرجل الهائج المليونير المحلى صاحب المصانع والمواطن العريق المحترم بيتيجوروف، المعروف بفضائحه وبأعماله الخيرية، وكما ذكرت الجريدة المحلية غير مرة، بحبه للمعرفة.

وبعد دقيقة من الصمت سأل بيتيجوروف:

ــ حسنا هل ستنصرفون أم لا؟

وخرج المثقفون من غرفة المطالعة على أطراف أصابعهم فى صمت، دون أن يتفوهوا بكلمة، فأوصد بيتيجوروف الباب خلفهم.

وبعد دقيقة كان يفسترات سبيرويدونتش يفح هامسا وهو يهز كتف الخادم الذى حمل الخمر إلى قاعة المطالعة:

ــ لقد كنت تعلم أنه بيتيجوروف، لماذا سكت؟

ــ أمرنى ألا أقول!

ــ أمر ألا يقول.. سأسجنك أيها الملعون شهرا وعندئذ ستعرف ما معنى «أمرنى ألا أقول» اخرج!.. ـ وقال مخاطبا المثقفين ــ وأنتم أيضا يا سادة ما أحلاكم.. اعلنوا العصيان! لم يكن فى استطاعتكم أن تخرجوا من قاعة المطالعة لعشر دقائق! حسنا، تحملوا إذن مسئولية ما صنعتم! آه ياسادة، ياسادة.. هذا لا يجوز..

وسار المثقفون فى النادى مقهورين، ضائعين، مذنبين يتهامسون ويتوقعون شرا.. وعندما عرفت زوجاتهم وبناتهم بالحادث أخلدن إلى السكون وتفرقن عائدات إلى بيوتهن، وتوقف الرقص.

وفى الساعة الثانية خرج بيتيجوروف من قاعة المطالعة، كان ثملا يترنح، وعندما دخل الصالة جلس بقرب الأوركسترا ونعس على أنغام الموسيقى، ثم أمال رأسه بحزن وعلا شخيره.

وأشاح الشاويشية بأيديهم للعازفين:

ــ لا تعزفوا! هس!.. يجور نيليتش نائم.

وسأل بيليبوخين وهو ينحنى على أذن المليونير:

ــ هل تأمرون بتوصيلكم إلى البيت يا يجور نيليتش؟

وندت عن شفتى بيتيجوروف حركة وكأنه يريد أن ينفخ ذبابة عن خده.

وعاد يبليبوخين يسأل:

ــ هلا تأمرون بتوصيلكم إلى البيت؟ أم باستدعاء العربة؟

ــ هه؟ من أنت؟.. ماذا تريد؟.

ــ أريد أن أوصلكم.. حان وقت النوم..

ــ أريد أن أذهب.. أوصلنى!

وتهلل بيليبوخين من الرضا وشرع ينهض بيتيجوروف. وأسرع إليه بقية المثقفين، وأنهضوا المواطن الأصيل المحترم وهم يبتسمون بسرور، وساروا به بحذر إلى العربة.

وقال جيستاكوف بمرح وهو يجلسه:

ــ لا يستطيع أن يضحك على جماعة كاملة إلا ممثل موهوب. أنا مأخوذ حقا يا يجور نيليتش! حتى الآن مازلت أضحك.. ها.. ها.. كنا نغلى ونتلمظ! ها.. ها! هل تصدقون؟ لم أضحك أبدا فى المسرح مثلما ضحكت اليوم، فكاهة بلا حدود! سأظل طول عمرى أذكر هذه الأمسية التى لا تنسى!.

وبعد أن أوصل المثقفون بيتيجوروف عاودهم المرح والاطمئنان.

وقال جيستياكوف وهو سعيد جدا:

ــ لقد مد لى يده عند الوداع، إذن فليس غاضبا..

فتنهد يفسترات سبيرويدونتش:

ــ يسمع منك ربنا! إنه رجل وغد، حقير، ولكنه محسن!.. لا يصح!.

مع سبق الإصرار - أدب روسي مترجم ل آنطوني تشيخوف

0
أمام المحقق يقف فلاح صغير، نحيف للغاية، فى قميص مخطط وسروال مرقع. ويبدو على وجهه الذى غطاه الشعر وأكله النمش، وعينيه اللتين لا تكادان تظهران من تحت حاجبيه الكثيفين المتهدلين، تعبير صرامة عابسة. وعلى رأسه كومة من الشعر الملبد الذى لم يمشط منذ زمن طويل، مما يضفى عليه مزيدا من الصرامة العنكبوتية. وهو حافى القدمين.

ويبدأ المحقق: ــ دينيس جريجوريف! اقترب وأجب عن أسئلتى. فى السابع من يوليو الجارى كان حارس السكة الحديد إيفان سيميونوف أكينفوف يقوم بالتفتيش صباحا على الخط، فوجدك عند الكيلو 141 متلبسا بفك صامولة من الصواميل التى تثبت بها القضبان على الفلنكات. وها هى ذى الصامولة! وقد قبض عليك ومعك هذه الصمولة. هل هذا هو ما حدث؟

ــ آه؟

ــ هل حدث هذا كما ذكر أكينفوف؟

ــ معلوم، حصل.

ــ طيب، ولأى غرض فككت الصامولة؟

ــ آه؟

ــ دعك من «آهك» هذه وأجب عن السؤال: لأى غرض فككت الصامولة؟

يقول دينيس بصوت أبح وهو يتطلع إلى السقف: ـ لو لم أكن بحاجة إليها ما فككتها.

ـ وما حاجتك إلى الصامولة؟

ـ الصامولة؟ نحن نصنع منها ثقالات السنانير.

ـ ومن هؤلاء «نحن»؟

ـ نحن، الناس.. فلاحو الناحية يعنى.

ـ اسمع يا أخانا، لا تتظاهر بالغباء، وتكلم بصراحة. كفاك كذبا بخصوص الثقالات!

فيدمدم دينيس وهو يطرف بعينيه: ـ أنا عمرى ما كذبت، فلماذا أكذب الآن.. وهل يمكن يا صاحب السعادة أن تصيد بدون ثقالة؟ لو وضعت حشرة أو دودة فى السنارة فهل يمكن أن تغوص إلى القاع بدون ثقالة؟

ويضحك دينيس ضحكة قصيرة. ـ أكذب قال.. وأى فائدةمن الطعم إذا بقى طافيا على سطح الماء؟ الفرخ والكراكى والبربوط دائما تعوم قرب القاع، وإذا عام شىء عند السطح فليس إلا الشيليشبيور وحتى هذا نادر.. الشيليشبيور لا يعيش فى نهرنا.. هذه السمكة تحب الوسع.

ـ ولماذا تحدثنى عن الشيليشبيور؟

ـ آه؟ طيب، حضرتك سألتنى! السادة أيضا عندنا يصطادون بهذه الطريقة. حتى أصغر عيل لن يصطاد بدون ثقالة. طبعا الذى لا يفهم هو الذى سيصطاد بدون ثقالة.. العبيط لا عتب عليه.

ـ إذن أنت تعترف بأنك فككت هذه الصامولة لكى تصنع منها ثقالة؟

ـ مضبوط! وهل لألعب بها!

ـ ولكنك تستطيع أن تستخدم للثقالة الرصاص، أو الرش.. أو أى مسمار.

ـ الرصاص لن تجده ملقى على الطريق، لازم تشتريه، والمسمار لا ينفع. ليس هناك أحسن من الصامولة.. فهى ثقيلة وبها خرم.

ـ كيف يتظاهر بالغباء كأنه ولد بالأمس أو هبط من السماء.. ألا تفهم أيها الأحمق إلى أى شىء يؤدى فك الصواميل؟ لو لم يكتشف الحارس ذلك لكان من الممكن أن يخرج القطار عن القضبان ولمات الناس! كنت ستتسبب فى قتل الناس!

ـ أعوذ بالله يا صاحب السعادة! لماذا أقتلهم؟ وهل نحن لا نعرف ربنا أم أننا أشرار؟ الحمد لله يا صاحب السعادة، أنا عشت حياتى ولم أقتل أحدا ولم أفكر حتى فى ذلك.. يا ساتر يارب ارحمنا.. كيف تقول ذلك؟

ـ وما رأيك، لماذا تقع حوادث انقلاب القطارات؟ إذا فككت صامولتين أو ثلاثا وقع الحادث!

ويضحك دينيس ضحكة سخرية قصيرة ويزر عينيه محدقا فى المحقق بارتياب. ـ لا! من سنين وكل أهل القرية يفكون الصواميل، وربنا سترها، وحضرتك تقول: انقلاب القطارات! قتل الناس.. لو أنى خلعت القضيب، أو وضعت مثلا جذع شجرة بعرض القضبان فيمكن ساعتها ينقلب القطار. ولكن هذه مجرد صامولة! شىء بسيط!

ـ ألا تفهم أن الصواميل تثبت بها القضبان فى الفلنكات!

ـ نحن نفهم هذا.. إننا لا نفك كل الصواميل.. نأخذ البعض ونترك الباقى.. عندنا نظر.. فاهمين طبعا..

ويتثاءب دينيس ويرسم علامة الصليب على فمه.. ويقول المحقق: ـ فى العام الماضى خرج قطار عن القضبان هنا.. مفهوم الآن لماذا..

ـ ماذا تقول حضرتك؟

ـ أقول مفهوم الآن لماذا خرج قطار عن القضبان فى العام الماضى.. الآن فهمت أنا السبب!

ـ سعادتكم من أهل العلم ولذلك تفهمون.. ربنا أعلم لمن يعطى المفهومية.. حضرتك عرفت وقدرت، لكن الحارس مثله مثل الفلاح، ليس عنده أى مفهومية، يمسك الواحد من قفاه ويشده.. طيب الأول أعرف وبعدين شد! الفلاح فلاح، ومخه فلاحى.. اكتب أيضا يا صاحب السعادة، إنه ضربنى مرتين فى وجهى وفى صدرى.

ـ عند إجراء التفتيش وجد عندك صامولة أخرى. فأين ومتى فككت هذه الصامولة؟

ـ حضرتك تقصد الصامولة التى كانت تحت الصندوق الأحمر؟

ـ لا أعرف أين كانت هذه الصامولة، لكنهم وجدوها لديك.. متى فككتها؟

ـ أنا لم أفكها. أعطانى إياها إيجناشكا، ابن سيميون الأعور. أنا أقصد الصامولة التى تحت الصندوق، أما تلك فى الزحافة، فى الحوش فككتها أنا ومتروفان.

ـ أى متروفان؟

ـ متروفان بتروف.. ألم تسمع عنه؟ إنه يصنع الشباك ويبيعها للسادة. وهو يحتاج إلى صواميل كثيرة مثل هذه. كل شبكة تحتاج إلى حوالى عشر صواميل.

ـ اسمع.. المادة 1081 من قانون العقوبات تنص على أن كل تخريب متعمد للسكك الحديدية يكون من شأنه تعريض سلامة وسيلة النقل المارة بها للخطر، وفى حالة معرفة الجانى بالعواقب الوخيمة التى سيؤدى إليها فعله.. فاهم؟ ولابد أنك تعرف إلى أى شىء يؤدى فك الصواميل.. يعاقب مرتكبه بالنفى والأشغال الشاقة.

ـ طبعا حضرتك أدرى.. نحن ناس جهلة.. وهل نحن نفهم؟

ـ أنت فاهم كل شىء! لكنك تكذب، وتتظاهر بالغباء!

ـ ولماذا أكذب؟ اسأل أهل القرية إن كنت لا تصدقنى.. بدون الثقالة لا يصطاد إلا السمك الأبيض، وهل هناك أسوأ من القوبيون، ومع ذلك فلا يمكن صيده بدون الثقالة.

فيبتسم المحقق قائلا: ـ أظنك ستحدثنى الآن عن الشيلشبيور.

الشليشبيور لا يعيش فى نواحينا.. نرمى الخيط بدون ثقالة على سطح الماء، والطعم فراشة، ونصطاد الشبوط، وحتى هذا نادر.

ـ طيب، اسكت.

ويسود الصمت. يقف دينيس متململا، ويحدث فى الطاولة ذات المفرش من الجوخ الأخضر ويطرف بشدة وكأنه لا يرى أمامه جوخا بل شمسا. والمحقق يدون بسرعة.

وبعد فترة صمت يسأل دينيس: ـ هل انصرف؟

لا، ينبغى أن أرسلك تحت الحراسة إلى السجن. يكف دينيس عن الطرف، ويرفع حاجبيه الكثيفين، وينظر إلى المحقق متسائلا: ـ كيف إلى السجن؟ يا صاحب السعادة! أنا مستعجل، لازم أروح للسوق. ولى عند يجور ثلاثة روبلات ثمن الشحم لازم أستلمها.

ـ اسكت، لا تشوش علىّ.

ـ إلى السجن.. لو كنت فعلت ما يستحق السجن لذهبت، ولكن هكذا.. بدون ذنب.. ماذا فعلت؟ لم أسرق، وأظن لم أتعارك.. أما إذا كنت تشك فىّ بخصوص الدين، فلا تصدق العمدة يا صاحب السعادة.. أرجوك اسأل السيد عضو اللجنة.. العمدة لا يعرف ربنا.

ـ اسكت!

فيدمدم دينيس: ـ أنا ساكت.. طيب أنا مستعد أحلف اليمين إن العمدة يغالط فى الحساب.. نحن ثلاثة إخوة: كوزما جريجورييف، وبعدين يجور جريجورييف، وأنا دينيس جريجورييف.

ـ أنت تشوش علىّ.. ويصيح المحقق: يا سيميون! خذه!

ويدمدم دينيس، بينما يقتاده جنديان قويان خارج غرفة التحقيق: ـ نحن ثلاثة إخوة.. والأخ لا يحاسب على ذنب أخيه.. كوزما لا يدفع وأنا المسئول! يا لكم من قضاة! مات السيد الجنرال، عليه الرحمة، وإلا لأراكم الويل، أيها القضاة.. إذا حكمتم فلتحكموا بالعدل، بالمفهومية.. وليس هكذا بلا ذنب.. حتى لو حكمتم بالجلد فليكن المهم بالحق، بالأمانة.

البدين والنحيف - أدب روسي مترجم ل آنطوني تشيخوف

0
في محطة سكة حديد نيقولاي التقى صاحبان أحدهما بدين والآخر نحيف، كان البدين قد تغذى لتوه في المحطة ولمعت شفتاه من الدهن كما تلمع ثمار الكرز الناضجة، وفاحت منه رائحة النبيذ والحلويات المعطرة .

أما النحيل فكان خارجا لتوه من عربة القطار محملا بالحقائب والصرر وعلب الكرتون . وفاحت منه رائحة لحم الخنزير والقهوة الرخيصة .. ولاحت من وراء ظهره امرأة نحيفة طويلة الذقن .. زوجته، وتلميذ طويل بعين



وهتف البدين عندما رأى النحيف :

- بورفيري ! أهو أنت ؟ يا عزيز ! كم مر من أعوام لم أرك!

ودهش النحيف :

- يا سلام ! ميشا ! يا صديق الطفولة ! من أين جئت ؟

وتبادل الصاحبان القبلات ثلاثا، وحدق كل منهما في الآخر بعينين مغروقتين بالدموع . وكانا كلاهما في حالة من الذهول اللذيذ .

وقال النحيف بعد القبلات :

يا عزيزي ! لم أتوقع أبدا ! يالها من مفاجأة ! هلا نظرت إلي جيدا ! جميل كما كنت ! حبوب وغندور كما كنت ! آه يا إلهي ! كيف أحوالك ؟ أصبحت غنيا ؟ تزوجت ؟ أنا تزوجت كما ترى .. وهذه زوجتي، لويزا .. من عائلة فانسنباخ .. بروتستانتية .. أما هذا فابني، نفانائيل، تلميذ بالصف الثالث. يا نفانيا، هذا صديق طفولتي ! درسنا معا في المدرسة . فكر نفانائيل قليلا ثم نزع قبعته .

ومضي النحيف يقول :

- درسنا معا في المدرسة ! أتذكر كيف كانوا يغيظونك بلقب هيروستراتوس لأنك أحرقت بالسيجارة كتاب عهدة، وكانوا يغيظونني بلقب أفيالتوس لأنني كنت أحب النميمة؟ . ها ها .. كم كنا صغارا ! لا تخف يا نفانيا .. اقترب منه .. وهذه زوجتي، من عائلة فانسنباخ .. بروتستانتية.

وفكر نفانائيل قليلا، ثم اختبأ خلف ظهر أبيه .

وسأل البدين وهو ينظر بإعجاب إلى صديقه :

- كيف حالك يا صديقي ؟ أين تخدم ؟ وماذا بلغت في الخدمة ؟

فضحك النحيف ضحكة صفراء، وازداد انكماشا :

- العفو .. ماذا تقولون .. إن اهتمام سعادتكم الكريم .. هو كالبلسم الشافي .. هذا هو ابني نفانائيل يا صاحب السعادة .. وزوجتي لويزا بروتستانتية إلى درجة ما ..

وأراد البدين أن يعارض بشيء ما، ولكن وجه النحيف كان يطفح بالتبجيل والتعبير المعسول والخنوع إلى درجة أثارت الغثيان في نفس المستشار السري، فأشاح بوجهه عن النحيف ومد له يده مودعا. وصافح النحيف ثلاث أصابع وانحني بجسده كله وضحك كالصيني : " هئ – هئ – هئ " . وابتسمت الزوجة ومسح نفانائيل الأرض بقدمه وسقطت منه القبعة .وكانوا ثلاثتهم في حالة من الذهول اللذيذ .

لمن أشكو كآبتي - أدب روسي مترجم ل آنطون تشيخوف

0
غسق المساء.. ندف الثلج الكبيرة الرطبة تدور بكسل حول مصابيح الشارع التي أضيئت لتوها، وتترسب طبقة رقيقة لينة على أسطح المنازل وظهور الخيل, وعلى الأكتاف والقبعات.. والحَوذي (ايونا بوتابوف) أبيض تماماً كالشبح.. انحنى متقوسا، بقدر ما يستطيع الجسد الحي أن يتقوس وهو جالس على المقعد بلا حراك.. ويبدو أنه لو سقط عليه كوم كامل من الثلج فربما ما وجد ضرورة لنفضه....... وفرسه أيضاً بيضاء تقف بلا حراك وتبدو بوقفتها الجامدة وعدم تناسق بدنها وقوائمها المستقيمة كالعصي حتى عن قرب أشبه بحصان الحلوى الرخيص، وهى على الأرجح مستغرقة في التفكير؛ فمن أُنتزع من المحراث من المشاهد الريفية المألوفة وأُلقي به هنا في هذه الدوامة المليئة بالأضواء الخرافية و الصخب المتواصل والناس الراكضين لا يمكن ألا أن يفكر.....

لم يتحرك ايونا وفرسه من مكانهما منذ وقت طويل. كانا قد خرجا من الدار قبل الغداء ولكنهما لم يستفتحا حتى الأن، وها هو ظلام المساء يهبط على المدينة، ويتراجع شحوب أضواء المصابيح مفسحا مكانه للالوان الحية, وتعلو ضوضاء الشارع .

ويسمع ايونا : يا حوذي! إلى فيبورجسكا ! يا حوذي!

يتنفض ايونا ويرى، من خلال رموشه المكللة بالثلج، رجلا عسكريا في معطفه بقلنسوة. ويردد العسكري : إلى فيبورجسكايا, ماذا هل أنت نائم؟ إلى فيبورجسكايا! ويشد أيونا اللجام؛ علامة الموافقة، فتتساقط إثر ذلك طبقات الثلج من على ظهر الفرس ومن على كتفيه.....ويجلس العسكري في الزحافة، ويطقطق الحوذي بشفتيه ويمد عنقه كالبجعة وينهض قليلا ويلوح بالسوط بحكم العادة اكثر مما هو بدافع الحاجة وتمد الفرس ايضاً عنقها, وتعوج سيقانها وتتحرك من مكانها بتردد..... وما إن يمضي ايونا بالزحافة حتى يسمع صيحات من الحشد المظلم المتحرك جيئة وذهاباً: إلى أين تندفع أيها الأحمق! أي شيطان ألقى بك؟ الزم يمينك! .. ويقول العسكري بانزعاج: أنت لاتجيد القيادة! الزم يمينك!

ويسبه حوذي عربة حنطور، ويحدق أحد المارة بغضب وكان يعبر الطريق فاصطدمت كتفه بعنق الفرس وينفض الثلج عن كمه، ويتملل ايونا فوق المقعد وكأنه جالس على جمر ويضرب بمرفقيه في كلا الجانبين ويدور بنظراته كالممسوس وكأنما لا يفهم أين هو ولماذا هو هنا.

ويسخر العسكري : يا لهم جميعا من أوغاد! كلهم يسعون إلى الاصطدام بك أو الوقوع تحت أرجل الفرس.. إنهم متآمرون ضدك.. يتطلع ايونا إلى الراكب ويحرك شفتيه....يبدو أنه يريد أن يقول شيئا ما ولكن لا يخرج من حلقه سو الفحيح.

فيسأله العسكري: ماذا؟

يلوي ايونا فمه بابتسامة ويوتر حنجرته ويفح :

- أنا يا سيدي.. هذا الأسبوع ..ابني مات .

- ممم!.. مات أذن؟

يستدير ايونا بجسده كله نحو الراكب ويقول:

- ومن يدري؟ .. يبدو أنها الحمى .. رقد في المستشفى ثلاثة أيام ومات... مشيئة الله.

ويتردد في الظلام:

- حاسب يا ملعون ! هل عَميت أيها الكلب العجوز؟ افتح عينيك!

ويقول الراكب:هيا, هيا سر، بهذه الطريقة لن نصل ولا غدا. عجّل! ويمد الحوذي عنقه من جديد، وينهض قليلا ويلوح بالسوط بحركة رشيقة متثاقلة، ويلتفت إلى الراكب عدة مرات ولكن الأخير كان قد أغمض عينيه ويبدو غير راغب في الإنصات. وبعد أن أنزله في فيبورجسكايا توقف عند إحدى الحانات، وانحني متقوسا وهو جالس على مقعد الحوذي, وجَمُد بلا حراك مرة أخرى.. ومن جديد يصبغه الثلج الرطب؛ هو وفرسه باللون الابيض، وتمر ساعة وأخرى.

على الرصيف يسير ثلاثة شبان وهم يطرقعون بأحذيتهم في صخب ويتبادلون السباب؛ اثنان منهم طويلان نحفيان والثالث قصير أحدب .. ويصيح الأحدب بصوت مرتعش:

- يا حوذي إلى جسر الشرطة! ثلاثة ركاب....بعشرين كوبيكا.

يشد ايونا اللجام ويطقطق بشفتيه ليست العشرون كوبيكا بسعر مناسب ولكنه في شغل عن السعر.... فسواء لديه روبل ام خمسة كوبيات...المهم أن يكون هناك ركاب...يقترب الشبان من الزحافة وهم يتدافعون بألفاظ نابية ويرتمي ثلاثتهم على المقعد دفعة واحدة. وتبدأ مناقشة حادة من الاثنين اللذين سيجلسان ومن الثالث الذي سيقف؟، وبعد سباب طويل ونزق وعتاب يصلون إلى حل : الأحدب هو الذي ينبغي أن يقف باعتباره الأصغر.. فيقول الأحدب بصوته المرتعش وهو يثبت أقدامه ويتنفس في قفا ايونا: هيا عجل! اضربها بالسوط! يا لها من قبعة لديك يا أخي! لن تجد في بطرسبرج كلها أسوأ منها.....

فيقهقه ايونا : هذا هو الموجود....

- اسمع أنت أيها الموجود عَجّل، هل تسير هكذا طول الطريق؟ ألا تريد صفعة على قفاك؟

ويقول أحد الطويلين: رأسي يكاد ينفجر؛ شربت بالأمس أنا وفاسكا عند آل دوكماسوف أربع زجاجات كونياك نحن الاثنين.. ويقول الطويل الأخر بغضب: لا أدري ما الداعي للكذب ! يكذب كالحيوان .

- عليّ اللعنة إن لم تكن حقيقة...

- إنها حقيقة مثلما هي حقيقة أن القملة تعسل.

فيضحك ايونا: هىء هىء هىء .. سادة ظرفاء .

ـ فلتخطفك الشياطين! هل ستعجل ايها الوباء العجوز أم لا!

ـ هل هذا سير؟ ناولها بالسوط ! هيا ايها الشيطان! هيا! ناولها جيدا !

ويحس ايونا خلف ظهره بجسد الأحدب المتململ ورعشة صوته ويسمع السبابا الموجه إليه ويرى الناس فيبدأ الشعور بالوحدة ينزاح عن صدره شيئا فشيئا. ويظل الأحدب يسب حتى يغص بسباب منتقى فاحش وينفجر في السعال. ويشرع الطويلان في الحديث عمن تدعى ناديجدا بتروفنا.

ويتطلع ايونا نحوهم وينتهز فرصة الصمت فيتطلع نحوهم ثانية ويدمم:

- اصلاً أنا..هذا الأسبوع..ابني مات!

فيتنهد الأحدب وهو يمسح شفتيه بعد السعال :

- كلنا سنموت..هيا عجل عجل.. يا سادة أنا لا يمكن أن أمضي بهذه الطريقة متى سيوصلنا؟

- حسنا فلتشجعه قليلا... في قفاه !

ـ هل سمعت ايها الوباء العجوز؟ سأكسر لك عنقك! التلطف مع جماعتكم معناه السير على الأقدام....هل تسمع ايها الثعبان الشرير؟ أم أنك تبصق على كلماتنا؟

ويسمع ايونا أكثر مما يحس بصوت الصفعة على قفاه.

فيضحك هىءهىءهىء سادة ظرفاء..... ربنا يعطيكم الصحة

ويسأل أحد الطويلين: يا حوذي هل أنت متزوج؟

- أنا .. هىءهىء.... سادة ظرفاء ! لم يعد لدي الأن إلا زوجة واحدة : الأرض الرطبة؛ أي القبر ! ..ها هو ابني قد مات وانا أعيش..... شيءغريب؛ الموت أخطأ بوابته..... بدلا من أن يأتيني ذهب إلى ابني ....

ويتلفت أيونا لكي يروي كيف مات ابنه ولكن الأحدب يتنهد بارتياح ويعلن أنهم أخيرا، والحمد لله، وصلوا.. ويحصل ايونا على العشرين كوبيكا، ويظل طويلا في أثر العابثين وهم يختفون في ظلام المدخل وها هو وحيد ثانية ومن جديد يشمله السكون.... والوحشة التي هدأت قليلا تعود تطبق على صدره بأقوى مما كان وتدور عينا ايونا بقلق وعذاب على الجموع المهرولة على جانبي الشارع : ألن يجد في هذه الآلاف واحدا يصغي إليه ؟

.. ولكن الجموع تُسرع دون أن تلاحظه أو تلاحظ وحشته؛ وحشة هائلة لا حدود لها.. لو أن صدر ايونا انفجر وسالت منه الوحشة فربما أغرقت الدنيا كلها، ومع ذلك لا أحد يراها.

لقد استطاعت أن تختبئ في صَدفة ضئيلة؛ فلن تُرى حتى في وَضَح النهار.......

يلمح ايونا بوابا يحمل قرطاسا فينوي أن يتحدث إليه ويساله : كم الساعة الآن يا ولدي؟

- التاسعة.. لماذا تقف هنا .. امشِ.

يتحرك عدة أمتار ثم ينحني متقوسا ويستسلم للوحشة.... ويرى أنه لا فائدة بعد من مخاطبة الناس ولكن ما إن تمر بضع دقائق حتى يتعدل وينفض رأسه كأنما أحس بوخزة ألم حادة ويشد اللجام ... لم يعد قادرا على التحمل.

ويخاطب نفسه : إلى البيت .. إلى البيت

وكأنما فهمت الفرس أفكاره فتبدأ في الركض بحماس، وبعد حوالي ساعة ونصف يكون ايونا جالسا بجوار فرن كبير قذر، وفوق الفرن وعلى الأرض وعلى الأرائك يتمدد أناس يشخرون، والجو مكتوم خانق.... يتطلع ايونا إلى النائمين، ويحك جلده ويأسف لعودته المبكرة إلى البيت ويقول لنفسه : لم أكسب حتى حق الشعير ولهذا أشعر بالوحشة، الرجل الذي يعرف عمله، الشابع هو وفرسه؛ دائما مطمئن البال..

في أحد الزوايا ينهض حوذي شاب، ويكح بصوت ناعس ويمد يديه إلى الدلو.. فيسأله ايونا:

- أتريد أن تشرب؟

- كما ترى .

- بالهناء والشفاء... أما أنا يا أخي فقد مات ابني هل سمعت؟ هذا الأسبوع في المستشفى...... حكاية!

ويتطلع ايونا ليرى أي تأثير تركته كلماته ولكنه لا يرى شيئا؛ فقط تَغطًى الحَوذي الشاب حتى رأسه وغط في النوم، ويتنهد العجوز ويحك جلده....فمثلما رغب الحوذي الشاب في الشرب يرغب هو في الحديث.. عما قريب يمر أسبوع منذ أن مات ابنه، بينما لم يتمكن حتى الآن من الحديث عن ذلك مع أحد كما يجب......... ضروري أن يتحدث بوضوح على مهل.... ينبغي أن يروى كيف مرض ابنه وكيف تعذب وماذا قال قبل وفاته وكيف مات، ينبغي أن يصف جنازته وذهابه إلى المستشفى ليتسلم ثياب الفقيد، وفي القرية بقيت ابنته أنيسيا....ينبغي أن يتحدث عنها أيضا.... وعوما فما أكثر ما يستطيع أن يروي الآن؛ ولا بد أن يتأوه السامع ويتنهد ويرثى... والأفضل أن يتحدث مع النساء، فهؤلاء وإن كن حمقاوات يوَلونْ من كلمتين.

ويقول ايونا لنفسه : فلأذهب لأتفقد الفرس.....وفيما بعد سأشبع نوماً .. يرتدي الملابس ويذهب إلى الاصطبل حيث تقف الفرس ويفكر في الشعير والدريس و الجو فعندما يكون وحده لا يستطيع أن يفكر في ابنه....يستطيع أن يتحدث عنه مع أحد، وأما أن يفكر فيه ويرسم لنفسه صورته فشيء رهيب لا يطاق.... ويسأل أيونا فرسه عندما يرى عينيها البراقيتين

- تمضغين؟ حسنا امضغي أمضغي .. ما دمنا لم نكسب حق الشعير فسنأكل الدريس...نعم أنا كبرت على القيادة، كان المفروض أن يسوق ابني لا أنا، كان حوذيا أصيلا لو أنه فقط عاش...... ويصمت ايونا بعض الوقت ثم يواصل :

- هكذا يا أخي الفرس، لم يعد كوزما أيونيتش موجودا... رحل عنا....فجأة .. خسارة.. فلنفرض مثلا أن عندك مهرا وأنت أم لهذا المهر...... ولنفرض أن هذا المهر رحل فجأة، أليس مؤسفا؟.

وتمضغ الفرس وتنصت وتزفر على يدي صاحبها، ويندمج ايونا فيحكي لها كل شيء.......

المغفلة - أدب روسي مترجم ل آنطوني تشيخوف

0
منذ أيام دعوتُ الى غرفة مكتبي مربّية أولادي (يوليا فاسيليفنا) لكي أدفع لها حسابها

<p>قلت لها: إجلسي يا يوليا…هيّا نتحاسب…
أنتِ في الغالب بحاجة إلى النقود
ولكنك خجولة إلى درجة انك لن تطلبينها بنفسك…</p><p>حسناً..لقد اتفقنا على أن أدفع لك (ثلاثين روبلاً) في الشهر</p><p>قالت: أربعين</p><p>قلت: كلا..ثلاثين..هذا مسجل عندي…كنت دائما أدفع للمربيات (ثلاثين روبلاً)…</p><p>حسناً</p><p>لقد عملت لدينا شهرين</p><p>قالت: شهرين وخمسة أيام</p><p>قلت: شهرين بالضبط..</p><p>هكذا مسجل عندي..</p><p>إذن تستحقين (ستين روبلاً)..</p><p>نخصم منها تسعة أيام آحاد..</p><p>فأنت لم تعلّمي (كوليا) في أيام الآحاد بل كنت تتنزهين معهم فقط..</p><p>ثم ثلاثة أيام أعياد</p><p>تضرج وجه (يوليا فاسيليفنا)</p><p>وعبثت أصابعها بأهداب الفستان ولكن..</p><p>لم تنبس بكلمة</p><p>*********</p><p>واصلتُ…</p><p>نخصم ثلاثة أعياد</p><p>إذن المجموع (إثنا عشر روبلاً)..</p><p>وكان (كوليا) مريضاً أربعة أيام ولم تكن تدرس..</p><p>كنت تدرّسين لـ (فاريا) فقط..</p><p>وثلاثة أيام كانت أسنانك تؤلمك فسمحتْ لك زوجتي بعدم التدريس بعد الغداء..</p><p>إذن إثنا عشر زائد سبعة.. تسعة عشر.. نخصم، الباقي ..هم.. (واحد وأربعون روبلاً).. مضبوط؟</p><p>إحمرّت عين (يوليا فاسيليفنا) اليسرى وامتلأت بالدمع، وارتعش ذقنها..</p><p>وسعلت بعصبية وتمخطت، ولكن…</p><p>لم تنبس بكلمة</p><p>*********</p><p>قلت: قبيل رأس السنة كسرتِ فنجاناً وطبقاً..</p><p>نخصم (روبلين)..</p><p>الفنجان أغلى من ذلك</p><p>فهو موروث، ولكن فليسامحك الله!!علينا العوض..</p><p>وبسبب تقصيرك تسلق (كوليا) الشجرة ومزق سترته..</p><p>نخصم عشرة..</p><p>وبسبب تقصيرك أيضا سرقتْ الخادمة من (فاريا) حذاء..</p><p>ومن واجبكِ أن ترعي كل شيء فأنتِ تتقاضين مرتباً..</p><p>وهكذا نخصم أيضا خمسة..</p><p>وفي 10 يناير أخذتِ مني (عشرة روبلات)</p><p>همست (يوليا فاسيليفنا): لم آخذ</p><p>قلت: ولكن ذلك مسجل عندي</p><p>قالت: حسناً، ليكن</p><p>واصلتُ: من واحد وأربعين نخصم سبعة وعشرين..الباقي أربعة عشر</p><p>امتلأت عيناها الاثنتان بالدموع..وظهرت حبات العرق على أنفها الطويل الجميل..يا للفتاة المسكينة</p><p>قالت بصوت متهدج: أخذتُ مرةً واحدةً.. أخذت من حرمكم (ثلاثة روبلات).. لم آخذ غيرها</p><p>قلت: حقا؟.. انظري</p><p>وانا لم أسجل ذلك!!</p><p>نخصم من الأربعة عشر ثلاثة</p><p>الباقي أحد عشر..</p><p>ها هي نقودك يا عزيزتي!!</p><p>ثلاثة.. ثلاثة.. ثلاثة.. واحد، واحد.. تفضلي</p><p>ومددت لها (أحد عشر روبلاً)..</p><p>فتناولتها ووضعتها في جيبها بأصابع مرتعشة..وهمست: شكراً</p><p>*********</p><p>انتفضتُ واقفاً واخذتُ أروح وأجئ في الغرفة واستولى عليّ الغضب</p><p>سألتها: شكراً على ماذا؟</p><p>قالت: على النقود</p><p>قلت: يا للشيطان</p><p>ولكني نهبتك..</p><p>سلبتك!..</p><p>لقد سرقت منك!..</p><p>فعلام تقولين شكراً؟</p><p>قالت: في أماكن أخرى لم يعطوني شيئاً</p><p>قلت: لم يعطوكِ؟!</p><p>أليس هذا غريبا!؟</p><p>لقد مزحتُ معك..</p><p>لقنتك درساً قاسياً..</p><p>سأعطيك نقودك.. (الثمانين روبلاً) كلها</p><p>ها هي في المظروف جهزتها لكِ!!</p><p>ولكن هل يمكن أن تكوني عاجزة الى هذه الدرجة؟</p><p>لماذا لا تحتجّين؟</p><p>لماذا تسكتين؟</p><p>هل يمكن في هذه الدنيا ألاّ تكوني حادة الأنياب؟</p><p>هل يمكن ان تكوني مغفلة إلى هذه الدرجة؟</p><p>ابتسمتْ بعجز فقرأت على وجهها: “يمكن”</p><p>سألتُها الصفح عن هذا الدرس القاسي وسلمتها، بدهشتها البالغة، (الثمانين روبلاً) كلها..</p><p>فشكرتني بخجل وخرجت</p>تطلعتُ في أثرها وفكّرتُ: ماأبشع أن تكون ضعيفاً في هذه الدنيا

فولوديا - أدب روسي مترجم ل آنطون تشيخوف

0
في الساعة الخامسة بعد ظهر يوم أحد من أيام الصيف كان فولوديا، وهو صبي في السابعة عشرة من عمره، بسيط، خجول، ذو مظهر عليل، جالساً في حديقة منزل شوميهين الريفي وهو يشعر بكآبة خرساء. كانت أفكاره اليائسة موزعة بين ثلاث محاور. الأول كونه ينبغي عليه أن يؤدي امتحاناً في الرياضيات غداً، يوم الاثنين. وكان يعلم أنه إن لم ينجح في هذا الامتحان التحريري فسيفصل من المدرسة، فقد مضى عليه عامان في الصف السادس، وحصل في درس الجبر في سجله السنوي على اثنين وثلاثة أرباع درجة. والثاني أنه يرى حضوره إلى (فيلا) شوميهين، وهي أسرة ثرية ذات مظاهر أرستقراطية، مصدر إهانة متكررة لعواطفه. فهو يعتقد أن مدام شوميهين تنظر إليه وإلى أمه كأتباع من أقربائهم الفقراء. إن أفراد أسرة شوميهين يضحكون على أمّه ولا يحترمونها. ولقد سمع ذات مرة مصادفة مدام شوميهين تحدث أنّا فيدورفنا في الشرفة عن أمه وتخبرها أنها تحاول أن تبدو شابة، وأنها لا تدفع خسائرها في لعب الورق أبداً، وأنها تدخن تبغ الآخرين. وفي كل يوم كان فولوديا يتضرع إلى أمّه ألاّ تذهب إلى أسرة شوميهين؛ وقد صوّر لها الدور المهين الذي تمثله مع أولئك الناس الأرستقراطيين، وألح عليها وتفوه بعبارات خشنة، لكنها -وهي امرأة طائشة سبق لها أن بددت ثروتها وثروة زوجها، ولها ميل خاص إلى أفراد الطبقة الرفيعة- لم تفهمه، فكان لزاماً عليه أن يصحبها مرتين في الأسبوع إلى (الفيلا) التي يكرهها.</p><p>والثالث أنه لم يستطع أن يتحرر من شعور غريب مضايق جديد عليه كلياً.. شعور ينم عن وقوعه في حب أنّا فيدورفنا، ابنة عمة شوميهين، وهي تعيش مع الأسرة. كانت امرأة مرحة، جهورية الصوت، مولعة بالضحك، صحيحة الجسد، فياضة بالنشاط، في الثلاثين من عمرها، بوجنتين متوردتين وكتفين مكتنزين وذقن ممتلئ مدور وابتسامة لا تفارق شفتيها الرقيقتين. لم تكن شابة ولا جميلة، وفولوديا يعلم ذلك حق العلم؛ ولكنه لسبب ما لم يستطع أن يكف عن التفكير فيها؛ يتطلع إليها وهي تهز كتفيها المكتنزين، أو تحرك ظهرها المسطح حينما تلعب (الكركت)، أو حينما تطلق ضحكة طويلة، أو بعد أن تجري على السلالم صعوداً وهبوطاً ثم تغوص في مقعد واطئ وتغلق عينيها نصف إغلاق، وتفتعل شهيقاً طويلاً متظاهرة بأنها تكاد تختنق وليس في وسعها أن تتنفس. كانت متزوجة، وكان زوجها -وهو رجل رزين وقور- مهندساً معمارياً؛ يقدم إلى (الفيلا) مرة في الأسبوع وينام نوماً عميقاً ثم يعود إلى المدينة. وقد تلمس هذا الشعور الغريب المضايق حينما أحسّ بكراهية نحو المهندس لا مبرر لها، وبراحة عميقة كلما عاد إلى المدينة.</p><p>وقد أحسّ الآن، وهو يجلس في الحديقة، ويفكر بامتحانه غداً، وبأمّه التي يسخرون منها، برغبة عظيمة في رؤية نيوتا (وهو الاسم الذي تنادي به أسرة شوميهين أنّا بتروفنا)، في سماع ضحكها وحفيف ثوبها. ولم تكن هذه الرغبة من نوع الحب الطاهر الشعري الذي يقرأ عنه في الروايات ويحلم به كل ليلة حينما يأوي إلى فراشه، بل هي رغبة غريبة مبهمة؛ إنه ليخجل منها، ليخافها كشيء خطير جداً، شيء ملوث، شيء لا يليق الاعتراف به حتى لنفسه.</p><p>«إنه ليس غراماً» قال في نفسه «لا يمكن للمرء أن يقع في غرام نساء متزوجات في الثلاثين. إنه مكيدة صغيرة.. نعم مكيدة».</p><p>وراح يفكر بحيائه الشديد، بحاجته إلى شارب، ينمشه، بعينيه الضيقتين، ووضع نفسه في مخيلته بجوار نيوتا، فبدا له هذا الوضع مستحيلاً، فبادر إلى تخيل نفسه جريئاً، جميلاً، فكهاً، مرتدياً لباساً على أحدث طراز.</p><p>وإذ كان غارقاً في أحلامه مركزاً عينيه في بقعة مظلمة من الحديقة تناهت إلى سمعه خطوات خفيفة. كان أحد الأشخاص يسير متمهلاً في ممشى الحديقة. ثم توقفت الخطوات وومض شيء أبيض في المدخل.</p><p>- أهناك أحد؟</p><p>سأل صوت امرأة. وعرف فولوديا الصوت ورفع رأسه في فزع.</p><p>«من هنا؟» سألت نيوتا وهي تدخل الحديقة «آه، أهو أنت يا فولوديا؟ ماذا تعمل هنا؟ تفكر؟ وكيف تستطيع الاستمرار مفكراً، مفكراً، مفكراً؟! تلك هي الطريقة التي تفقد بها صوابك».</p><p>نهض فولوديا وتطلع مبهوراً إلى نيوتا. كانت قد خرجت من الحمام لتوها. كانت تعلق على كتفها منشفة كبيرة وقطعة قماش، وكان في وسعه أن يرى شعرها المبلل ملتصقاً بجبينها من تحت المنديل الحريري الأبيض الذي يطوق رأسها. وكانت رائحة الحمام ورائحة الصابون ما تزال تفوح حولها. وكان زرّ قميصها الأعلى مفتوحاً فاستطاع فولوديا أن يرى بلعومها وصدرها.</p><p>«لماذا لا تقول شيئاً؟» قالت نيوتا وهي ترمقه بنظرات لائمة «إن الصمت مناف للأدب حينما تكلمك سيدة. يا لك من أخرق يا فولوديا! أنت تجلس صامتاً دائماً ولا تقول شيئاً، مفكراً كأحد الفلاسفة. ليس فيك شرارة من نار أو حياة. أنت فظيع حقاً. ينبغي أن تكون مليئاً بالحياة في مثل هذه السن؛ تقفز، وتتحدث كثيراً، وتغازل، وتحب».</p><p>نظر فولوديا إلى قطعة القماش التي تمسك بها يد سمينة بيضاء، وانطلق يفكر...</p><p>«إنه أبكم» قالت نيوتا في عجب «إنه لأمر غريب حقاً.. أصغ، كن رجلاً. هيا، بوسعك أن تبتسم على الأقل» وضحكت «ولكن أتعلم يا فولوديا لماذا أصبحت أخرقاً؟ لأنك لا تبالي بالنساء. لم لا تفعل؟ حقاً إن هذا المكان خال من الفتيات، ولكن ليس هناك ما يحول دون مغازلتك للنساء المتزوجات. لماذا لا تغازلني مثلاً؟».</p><p>أصغى إليها فولوديا وحك جبينه في حيرة أليمة.</p><p>«إن الذين يحبون الوحدة والصمت هم المتعجرفون فقط» استمرت نيوتا قائلة وهي تبعد يده عن جبينه «أنت متعجرف يا فولوديا. لماذا ترنو إليّ من تحت حاجبيك؟ انظر إليّ في الوجه مباشرة إذا شئت. أجل أيها الأخرق».</p><p>وقرّ عزم فولوديا على الكلام، فلوى شفته السفلى محاولاً الابتسام ورمش عينيه، ثم وضع يده على جبينه ثانية وقال: أنا... أنا أحبك.</p><p>رفعت نيوتا حاجبيها في دهشة وضحكت.</p><p>«ماذا أسمع؟» أخذت تغني كما تغني المغنية الرئيسة في الأوبرا لدى سماعها شيئاً فظيعاً «ماذا؟ ماذا قلت؟ قلها ثانية، قلها ثانية».</p><p>ردّد فولوديا: أنا... أنا أحبك.</p><p>وبحركة آلية، بدون تأمل أو إدراك، تقدم نصف خطوة نحو نيوتا وأمسك ذراعها. كان كل شيء مظلماً أمام عينيه، وامتلأت عيناه بالدموع. واستحال الكون بأجمعه إلى منشفة كبيرة تفوح منها رائحة الحمام.</p><p>«برافو... برافو» وسمع ضحكة مرحة «لماذا لا تتكلم؟ أريدك أن تتكلم. حسناً؟».</p><p>حدق فولوديا في وجهها الضاحك حينما رأى أنها لم تصده عن الإمساك بذراعها. وببلادة، بفظاعة، وضع ذراعيه حول خصرها فالتقت يداه وراء ظهرها، وأمسك بها من خصرها بكلتا ذراعيه. قالت في صوت هادئ وهي ترفع ذراعيها إلى رأسها لتسوي شعرها تحت المنديل فتبين غمازة مرفقيها: ينبغي أن تكون لبقاً، مؤدباً، ساحراً، ولا يمكنك أن تصبح كذلك إلا بتأثير المرأة. ولكن يا للشر والغضب المرتسم على وجهك.. أجل يا فولوديا، لا تكن فظاً، أنت شاب وما يزال أمامك وقت طويل للتفلسف... هيا، دعني، إنني ذاهبة.. دعني..».</p><p>حررت خصرها بدون صعوبة، وغادرت الحديقة متمهلة وهي تترنم بلحن. وبقي فولوديا وحيداً. مسد شعره وابتسم، وقطع الحديقة ذهاباً وجيئة مرات ثلاث، ثم جلس على المصطبة وابتسم ثانية.</p><p>اجتاحه خجل لا يوصف، حتى لقد عجب كيف يمكن أن تبلغ حدة الخجل الإنساني إلى تلك الذورة. ودفعه خجله إلى الابتسام، إلى تحريك يديه مؤشراً، إلى الهمهمة بكلمات غير مترابطة.</p><p>كان خجلاً من معاملته كصبي صغير، خجلاً من حيائه، خجلاً -أكثر من كل ذلك- من وقاحته التي سولت له تطويق خصر امرأة محترمة. وبدا له أن أي شيء في مظهره الخارجي أو في سنّه، بل وفي وضعه الاجتماعي، لا يخوله حق الإقدام على ذلك العمل.</p><p>نهض وغادر المكان. ودخل مخبأ الحديقة بعيداً عن البيت من دون أن يتلفت حواليه.</p><p>«آه، لابد من الابتعاد عن هذا المكان بأسرع وقت ممكن» فكر وهو يعصر رأسه «يا إلهي، بأسرع وقت ممكن».</p><p>كان موعد سفر القطار الذي يعود فيه فولوديا مع أمه في الساعة الثامنة والأربعين دقيقة. لم يزل ثمة ثلاث ساعات على موعد سفر القطار، وإنه ليود أن يمضي إلى المحطة بكل سرور بدون انتظار أمّه.</p><p>في الساعة الثامنة دخل المنزل. كانت هيئته تنم عن عزم مكين. ماذا سيحدث! لقد قرّ عزمه على الدخول في جرأة، على التحديق في وجوههم غير مبال بشيء.</p><p>عبر الشرفة والبهو الكبير وغرفة الاستقبال، ثم توقف ليلتقط أنفاسه. كان بإمكانه أن يسمعهن يشربن الشاي في غرفة الطعام. وكانت مدام شوميهين وأمه ونيوتا يتحدثن عن شيء ما ويضحكن.</p><p>أنصت فولوديا.</p><p>«أؤكـد لكما» قالت نيوتا «لم أسـتطع أن أصدق عيني. ولما بدأ يكشـف عن عواطفه، و-تصوروا فقط- لف ذراعيه حول خصري، كنت سأشك في شخصيته. وأنتما تعلمان أنه ذو طريقة خاصة. وحينما أعلن حبه كان على وجهه تعبير قاس مثل سير كاسيان».</p><p>«حقاً» قالت أمه وهي تنفجر ضاحكة «حقاً، كم يذكرني بأبيه!».</p><p>واستدار فولوديا على عقبيه، وهرع خارج المنزل إلى الهواء الطلق.</p><p>«كيف يمكنهن الحديث عن هذا بصوت مرتفع؟!» تساءل فولوديا وهو يشبك يديه في ألم ويتطلع إلى السماء في رعب «يتحدثن بصوت مرتفع وبكل برود.. وقد ضحكت أمي.. أمي.. يا إلهي، لماذا وهبتني هذه الأم؟ لماذا؟».</p><p>ولكن لابد له أن يعود إلى المنزل مهما حدث. وذرع الشارع ثلاث مرات رواحاً وغدواً، وشاع الهدوء في نفسه، فرجع إلى البيت.</p><p>- لماذا لم تجئ وقت الشاي؟</p><p>«أنا آسف.. لقد.. لقد حان وقت عودتي» تمتم دون أن يرفع أنظاره «ماما، الساعة الثامنة الآن».</p><p>«عد لوحدك يا عزيزي» قالت أمه بفتور «سأقضي هذه الليلة مع ليلى.. مع السلامة يا عزيزي. دعني أرسم شارة الصليب فوقك».</p><p>رسمت إشارة الصليب فوق ولدها وقالت بالفرنسية مخاطبة نيوتا: إنه أقرب شبهاً بليرمنتوف.. أليس كذلك؟</p><p>ألقى فولوديا تحية الوداع ثم غادر غرفة الطعام دون أن ينظر في وجه إحداهن. وبعد دقائق عشر كان يقطع الطريق المؤدي إلى المحطة فرحاً مسروراً. إنه لم يعد يشعر بعد بالخوف أو الخجل. تنفس الهواء بحرية ويسر.</p><p>جلس على صخرة على بعد حوالي نصف ميل من المحطة، وانطلق يحدق في الشمس التي كان نصف منها متوارياً وراء أكمة. كان ثمة أضواء متفرقة في المحطة. وكان أحد المصابيح الخضر يرسل ضوءاً معتماً، لكن القطار لم يلح بعد. شعر فولوديا بالبهجة في الجلوس ساكناً بدون حركة في مراقبة المساء وهو يقبل شيئاً فشيئاً. وارتسم في مخيلته بوضوح عظيم ظلام الحديقة، صوت الخطوات، رائحة الحمام، القهقهة، الخصر، ولم تبد له هذه الأشياء مزعجة وخطيرة كما كانت من قبل.</p><p>وفكر: «ليس للأمر أدنى اعتبار.. إنها لم تسحب يدها بعيداً، وقد ضحكت حينما طوقت خصرها. لابد أنها كانت راضية. ولو كانت منزعجة لغضبت...».</p><p>أحس فولوديا بالأسف على ما كان يعوزه من جرأة أكثر. وغمره أسف لسفره الآن بهذه الطريقة البليدة. وألحت عليه فكرة بأنه سيكون أعظم جرأة إذا ما تكررت مثل تلك الحادثة معه، وأنه لن يعيرها مثل هذا الاهتمام. وليس ببعيد أن تسنح له مثل تلك الفرصة ثانية. فقد اعتدن أن يتمشين وقتاً طويلاً حوالي (الفيلا) بعد العشاء. وإذا ما سار فولوديا إلى جوار نيوتا في الحديقة المظلمة فستسنح له تلك الفرصة.</p><p>وفكر: «سأعود إلى (الفيلا) وأسافر بقطار الصباح.. سأزعم أن القطار فاتني».</p><p>استدار راجعاً... كانت مدام شوميهين وأمه ونيوتا وإحدى بنات العمة جالسات في الشرفة يلعبن الورق. ولما ألقى إليهن فولوديا أكذوبته انتابهن القلق خشية تأخره عن موعد الامتحان غداً ونصحنه بأن يصحو مبكراً. وكان فولوديا طوال الوقت الذي صرفنه في لعب الورق جالساً في جهة واحدة، يلتهم نيوتا بعينيه، وينتظر... ولقد هيأ خطة محكمة في ذهنه؛ سيقصد إلى نيوتا في الظلام، ويتناول يدها، ثم يطوقها، ولا حاجة به إلى القول فسيفهم كلاهما بدون كلمات.</p><p>لكن السيدات لم يتمشين عقب العشاء بل واصلن اللعب. ولبثن يلعبن حتى الساعة الواحدة صباحاً، ثم تفرقن إلى النوم.</p><p>«ما أعظم سخافة كل هذا!» فكر فولوديا بانزعاج وهو يلجأ إلى فراشه «ولكن لا بأس، سأنتظر حتى الغد.. غداً في الحديقة.. هذا غير مهم».</p><p>لم يحاول النوم بل جلس في فراشه ململماً ركبتيه وانطلق يفكر. كانت كل فكرة تدور حول امتحان الغد كريهة لديه. وآمن بأنه سيفصل وأنه لا شيء فظيع في فصله. وعلى العكس من ذلك فهو شيء حسن، بل حسن جداً. فسيكون في اليوم التالي حرّاً كالطير، وسيرتدي ملابس اعتيادية بدلاً من ملابس المدرسة، وسيدخن علانية، وسيقدم إلى هنا ويغازل نيوتا متى شاء، ولن يكون (تلميذ مدرسة) بل (شاب). أما عن المستقبل فهو واضح أمامه؛ سينضم إلى الجيش، أو إلى مصلحة التلغراف، أو يعمل في حانوت صيدلي ويصبح صيدلياً يوماً ما. هناك مهن كثيرة. وانقضت ساعة أو ساعات وهو غارق في أفكاره.</p><p>حوالي الساعة الثالثة، حينما شعشع الفجر، فتح الباب بهدوء ودلفت أمه.</p><p>«ألست نائماً؟» قالت وهي تتثاءت «نم، جئت لألبث دقيقة فقط... لأحضر القطرات..».</p><p>- ولأجل أي شيء؟.</p><p>- اعترت ليلى التشنجات ثانية. نم يا بني، إن امتحانك غداً...</p><p>انتزعت من الخزانة قنينة ودنت من النافذة، وقرأت رقعة العنوان ثم خرجت.</p><p>«ماريا لينتيفنا.. هذه ليست قنينة القطرات» سمع فولوديا بعد دقيقة صوت امرأة تهتف «هذه قطرات (زهرة الوادي) وليلى في حاجة إلى مورفين. هل ابنك نائماً؟ سليه أن يبحث عنها».</p><p>كان صوت نيوتا. وارتعش جسد فولوديا. وارتدى سرواله عجلاً، ورمى سترته على كتفيه وهرع إلى الباب.</p><p>«أتفهمين؟ مورفين» قالت نيوتا هامسة «لابد أن هناك رقعة على الزجاجة مكتوبة باللاتيني. أيقظي فولوديا. سيعثر عليها».</p><p>فتحت أمه الباب فرأى نيوتا. كانت ترتدي نفس الدثار الفضفاض الذي لبسته بعد الحمام. وتهدل شعرها على كتفيها في فوضى، وبدا وجهها ناعساً وقاتماً في النور الأغبش.</p><p>قالت وهي تلمحه: لماذا، فولوديا ليس نائماً. فولوديا، ابحث في الخزانة عن زجاجة المورفين. ليلى متعبة! إنها تصاب بشيء مزعج دائماً!.</p><p>تمتمت أمه بشيء وتثاءبت ثم انصرفت.</p><p>قالت نيوتا: ابحث عنها.. لماذا تقف جامداً؟!</p><p>اتجه فولوديا إلى الخزانة وركع وطفق يتفحص زجاجات وصناديق الدواء. كانت يداه ترتعشان، وكان يحس بموجات باردة تتلاطم في صدره وداخله. وشعر باختناق ودوار من رائحة حامض الفنيك والأثير والأدوية الأخرى التي كان ينتزعها بأصابعه المرتجفة بدون ضرورة فيريق شيئاً منها.</p><p>وفكر: «أظن أن أمي انصرفت.. هذا حسن.. حسن».</p><p>- ألا تسرع؟</p><p>قالت نيوتا ببطء.</p><p>«دقيقة.. أعتقد أن هذا مورفين» قال فولوديا وهو يقرأ على إحدى الزجاجات كلمة (مورف) «ها هي ذي».</p><p>كانت نيوتا تقف في الباب وقد وضعت قدماً في الغرفة وأخرى في الممر. كانت تحاول أن تسوي شعرها عبثاً، فهو طويل وكثيف جداً. ورنت إلى فولوديا بنظرات شاردة. وبدت بدثارها الفضفاض، بوجهها الناعس، بشعرها المتهدل، في النور الفضي، آسرة، رائعة. ناولها الزجاجة وهو مسحور، مرتعد الجسم، يتذكر في تلذذ كيف طوق هذا الجسد اللذيذ بين ساعديه وقال: ما أروعك!</p><p>- ماذا؟</p><p>تقدمت في الغرفة.</p><p>- ماذا؟</p><p>سألته باسمة.</p><p>كان صامتاً. ورنا إليها ثم تناول يدها، كما حدث في الحديقة بالضبط، فنظرت إليه باسمة، وظلت تنتظر ماذا يمكن أن يعقب ذلك.</p><p>وهمس: إنني أحبك.</p><p>تلاشت ابتسامتها، وفكرت لحظة ثم قالت: انتظر قليلاً، أعتقد أن هناك شخصاً قادم. آه من تلاميذ المدارس!</p><p>قالت بلهجة استسلام وهي تمضي إلى الممر وتمد بصرها فيه. «كلا... ليس هناك أحد».</p><p>وعادت إليه.</p><p>ثم بدا لفولوديا أن الغرفة، نيوتا، شروق الشمس، هو، أن كل شيء قد ذاب في شعور من الغبطة العميقة الفائقة التي لا تصدق، والتي يمكن أن يضحي المرء بحياته كلها من أجلها مواجهاً العذاب الأبدي... ثم لم يمض نصف دقيقة وإذا به يرى فجأة أمامه وجهاً مكتنزاً عاديّاً، قد شوهته الرغبة، فتملكه اشمئزاز حاد.</p><p>«لابد أن أذهب على أية حال» قالت نيوتا وهي ترمق فولوديا بنظرات احتقار «يا لك من صبي قبيح، بائس.. تباً لك أيها البطة!».</p><p>بدا له شعرها الطويل، دثارها الفضفاض، خطواتها، صوتها، كريهاً شائناً.</p><p>«بطة قبيحة» فكر إثر انصرافها «إنني قبيح حقاً.. كل شيء قبيح».</p><p>كانت الشمس مشرقة، والطيور تغرد في ضجيج، وكان في وسعه سماع خطوات البستاني وقرقعة عربته. ثم سمع خوار الأبقار وأنغام ناي أحد الرعاة. وحدثته الشمس والأصوات أن ثمة حياة طاهرة، نقية، شعرية، في مكان ما من هذا العالم. ولكن أين هذا المكان؟ إنه لم يسمع أية كلمة عنه من أمه، أو من أي شخص حواليه.</p><p>حين أقبل الخادم لإيقاظه كي لا يفوته قطار الصباح تظاهر بالنوم.. وهمس لنفسه: «إلى الشيطان».</p><p>وصحا بين الساعة العاشرة والحادية عشرة. فكر وهو يمشط شعره أمام المرآة ويتمعن في وجهه القبيح الشاحب الذي أضناه السهاد: «إنها لحقيقة أكيدة.. بطة قبيحة». وقال لأمه وقد جزعت لرؤيته متأخراً عن الامتحان: غلبني النوم يا ماما.. ولكن لا داعي للقلق، فسأنال شهادة طبية.</p><p>استيقظت مدام شوميهين ونيوتا في الساعة الواحدة. وسمع فولوديا مدام شوميهين تفتح نافذتها في ضجة، وتناهت إليه قهقهة نيوتا. ثم انفتح الباب ورأى صفاً طويلاً من المنافقات (بينهن أمه) يتحلقن حول مائدة الفطور، ولمح وجه نيوتا الضاحك النظيف وحاجبي ولحية المهندس الذي وصل من المدينة لتوه.</p><p>كانت نيوتا مرتدية حلة من حلل (الروسيين الصغار) لا تناسبها أبداً، أكسبتها مظهر الخرقاء؛ وكان المهندس يلقي نكات عامية متعبة. خيل لفولوديا أن نيوتا تضحك بصوت مرتفع لغرض مقصود. وظلت تتطلع إلى جهته لتفهمه أن ذكرى الليلة السابقة لا تزعجها أبداً، إن حضور البطة القبيحة على مائدة الطعام لم يجلب انتباهها.</p><p>في الساعة الرابعة قصد فولوديا بصحبة أمه إلى المحطة. وأثارت فيه الذكريات الشائنة، الليلة المسهدة، ارتقاب الفصل من المدرسة، لسعات الضمير، غضباً قاتماً عنيفاً. تأمل وجه أمه الجانبي، أنفها الصغير، رداء المطر الذي أهدته إليها نيوتا، ثم تمتم بانزعاج: لماذا تستعملين (البودرة) يا ماما؟ ذلك لم يعد ملائماً لسنك. أنت تسرفين في التزين، ولا تدفعين خسائرك في القمار، وتدخنين تبغ الآخرين.. هذا شيء كريه. أنا لا أحبك.. لا أحبك.</p><p>لقد أهانها. نقلت عينيها الصغيرتين في انزعاج، وشبكت يديها الرقيقتين وهمست في جزع: ماذا تقول يا عزيزي! سيسمعك الحوذي! اسكت وإلا سمعك الحوذي. بإمكانه أن يسمع كل شيء.</p><p>«أنا لا أحبك.. لا أحبك» استمر فولوديا يقول وهو متلاحق الأنفاس «أنت مجردة من الروح، مجردة من الأخلاق... حذار أن ترتدي هذا المعطف مرة أخرى.. أتسمعين؟ وإلا فسأمزقه إرباً...».</p><p>قالت أمه وهي تبكي: تمالك نفسك يا بني.. سيسمعك الحوذي.</p><p>- وأين ثروة أبي؟ أين ثروتك؟ بددتها كلها. أنا لست خجلاً من كوني فقيراً. لكنني خجل من مثل هذه الأم... إنني أحمر خجلاً دائماً عندما يسألني عنك التلاميذ.</p><p>كان قطارهما يمر بمحطتين قبل وصولهما إلى المدينة. أمضى فولوديا الوقت في الفسحة الصغيرة التي تربط عربتين. كان يرتجف من قمة رأسه إلى أخمص قدميه. ولم يشأ أن يجلس في ديوان العربة لأن أمه التي يكرهها كانت هناك. وأحس بكره لنفسه، لعامل التذاكر، للدخان المنبعث من الماكنة، للبرد الذي يعزي إليه ارتجافه. وكلما اشتدت الكآبة في قلبه كلما قوي شعوره بأنه في مكان ما من العالم، بين طائفة من الناس، توجد حياة طاهرة، شريفة، دافئة، نقية، فياضة بالحب والشفقة والمرح والإخلاص، فيزداد إحساسه بشقائه، حتى لقد سأله أحد المسافرين وهو يتفحص وجهه: أتشكو من وجع الأسنان؟.</p><p>كان فولوديا يعيش في المدينة مع ماريا بتروفنا، وهي سيدة ذات أصل نبيل، تمتلك منزلاً كبيراً تؤجر غرفه للنزلاء. وكانت لأمه غرفتان، واحدة ذات نوافذ وصورتين بإطارين مذهبين معلقتين على الجدار، وفيها سريرها، وهي خاصة بها، وأخرى صغيرة مظلمة متصلة بها مخصصة لفولوديا، وليس فيها سوى أريكة يتخذها له فراشاً. لكن الغرفة تكتظ بسلال خصافية طافحة بالملابس وصناديق القبعات وأشياء أخرى من سقط المتاع التي تحتفظ بها أمه لسبب أو لآخر. وكان فولوديا يستذكر دروسه إما في غرفة أمه أو في الصالة التي يلتقي فيها النزلاء وقت الغداء وبعض الأمسيات.</p><p>ولدى وصولهما إلى البيت اضطجع فولوديا على الأريكة وتدثر باللحاف ليوقف ارتجافه. وذكرته سلال الخصاف وصناديق (الكرتون) وسقط المتاع أنه لا يملك غرفة خاصة، أنه لا يستطيع أن يركن إلى ملجأ منعزل، بعيداً عن أمه، عن زائريها، عن الأصوات المنبعثة من الصالة. وذكّره القمطر والكتب المبعثرة حواليه بالامتحان الذي فاته.. ولسبب ما، بدون مناسبة أبداً، خطرت في ذهنه بلدة منتون التي عاش فيها مع أبيه حينما كان في السابعة من عمره. وفكر ببياتريس وطفلتين أخريتين كان يجري معهن على الرمال... وحاول أن يستعيد في ذاكرته لون السماء، البحر، ارتفاعات الأمواج، مزاجه في ذلك الحين، لكنه لم يفلح. ومرقت الفتيات الإنجليزيات في مخيلته كما لو كن أحياء، لكن كل شيء ظل مشوشاً مختلطاً.</p><p>«كلا، إن الجو بارد هنا» فكر فولوديا ونهض وارتدى سترته ومضى إلى الصالة.</p><p>كانوا يحتسون الشاي في الصالة. وكان يتحلق حول (السماور) ثلاثة أفراد؛ أمه، وسيدة عجوز تدرّس الموسيقى وتلبس (مونيكلا)، و أوگستين ميهيليتش، رجل كهل وضخم جداً يشتغل في مصنع للعطور.</p><p>قالت أمه: إنني لم أتغد اليوم. فكرت في إرسال الخادمة لشراء بعض الخبز.</p><p>- دونياشا.</p><p>صاح الفرنسي.</p><p>وظهر أن ربة الدار أرسلت الخادمة إلى مكان ما.</p><p>«أوه، لا أهمية لذلك» قال الفرنسي باسماً «سأذهب بنفسي لشراء بعض الخبز حالاً. إنه لا شيء».</p><p>ووضع سيگاره الكبير في مكان بارز، وارتدى قبعته وخرج. وراحت أمه تحدّث مدرّسة الموسيقى إثر خروجه، كيف تمكث لدى أسرة شوميهين، وكيف يرحبون بها بحرارة. قالت: «إن ليلى شوميهين قريبة لي كما تعلمين. كان زوجها المرحوم الجنرال شوميهين ابن عم زوجي، وكانت هي بارونة كولب».</p><p>«ماما، هذه أكاذيب» قال فولوديا بخشونة «لماذا تروين أكاذيب؟!».</p><p>كان يعلم جيداً أن ما قالته أمه صحيح؛ لم تكن هناك كلمة مكذوبة واحدة فيما قالته عن الجنرال شوميهين والبارونة كولب. لكن كان ثمة شيء يوحي بكذبها في طريقة حديثها، في تعبير وجهها، في عينيها، في كل شيء. «أنت تكذبين» كرر فولوديا وخبط جمعه على المنضدة بعنف فارتجفت الأواني وانسكب شاي أمه «لماذا تتحدثين عن الجنرال والبارونة؟ هذه أكاذيب كلها».</p><p>انتاب الارتباك مدرّسة الموسيقى وسعلت في منديلها محاولة أن تعطس، وأجهشت الأم بالبكاء.</p><p>«أين المفر» فكر فولوديا.</p><p>لقد أصبح في الشارع فعلاً... إنه خجل من مواجهة زملائه في المدرسة. وتذكر ثانية، بدون مناسبة تماماً، الفتاتين الإنجليزيتين. وانطلق يذرع الصالة. ثم قصد إلى غرفة أوگستين ميهيلش. كانت تفوح فيها رائحة زيت أثيري وجليسرين. وكانت القناني والأقداح موزعة على المناضد والمقاعد، بل وحافة النافذة أيضاً وهي تحتوي على سوائل ذات ألوان عديدة. تناول فولوديا جريدة من المنضدة وقرأ عنوان (الفيگارو).. كان ثمة رائحة قوية ومبهجة فيها. ثم التقط من المنضدة مسدساً...</p><p>«هيا، هيا، لا تبالي بهذا» حاولت المدرّسة أن تهدئ أمه في الغرفة المجاورة «إنه شاب. الشباب في سنه لا يتمالكون أنفسهم. على المرء أن يهيئ نفسه لمثل هذه الأمور».</p><p>«كلا يا يفگينيا أندريفنا، إنه فسد كلياً» قالت أمه في صوت ملول «ليس له أحد يحكمه. وأنا ضعيفة وليس في قدرتي عمل شيء.. أوه، إنني شقية».</p><p>وضع فولوديا فوهة المسدس في فمه، وتلمس شيئاً كالمحرك وضغط عليه بإصبعه. ثم شعر بشيء آخر يبرز، وضغطه مرة أخرى. أخرج الفوهة من فمه ومسحها بطرف سترته، ثم نظر إلى داخلها. إنه لم يمسك من قبل سلاحاً بيده...</p><p>وفكر: «أظن أن على المرء أن يرفع هذا... نعم، يبدو هكذا».</p><p>عاد أوگستين ميهيلتش إلى الصالة وطفق يحدثهما عن شيء ما وهو يضحك. ووضع فولوديا الفوهة في فمه ثانية وكزّ عليها بأسنانه، وضغظ شيئاً ما بإصبعه. ودوى صوت طلق ناريّ وضرب شيء ما فولوديا في مؤخرة رأسه بعنف فظيع، وسقط رأسه إلى الأسفل على المنضدة بين القناني والأقداح. ثم رأى أباه كما في بلدة منتون، يرتدي قبعة عالية بشريط أسود عريض. وأمسكته من كلتا ذراعيه فجأة سيدة ترتدي الحداد، وسقطا على رأسيهما في حفرة مظلمة وعميقة جداً.</p>ثم تلطخ كل شيء وتلاشى.

وفاة موظف - أدب روسي مترجم ل آنطون تشيخوف

0
ذات مساء رائع كان ايفان ديمتريفيتش تشرفياكوف ، الموظف الذي لا يقل روعة، جالساً في الصف الثاني من مقاعد الصالة ، يتطلع في المنظار إلي ( أجراس كورنيفيل ). وراح يتطلع وهو يشعر بنفسه في قمة المتعة ، وفجأة... وكثيرا ما تقابلنا (وفجأة) هذه في القصص. والكُتّاب علي حق ، فما أحفل الحياة بالمفاجآت ! وفجأة تقلص وجهه ، وزاغ بصره ، واحتبست أنفاسه... وحول عينيه عن المنظار وانحني و... آتششش!!! عطس كما ترون ، والعطس ليس محظورا علي أحد في أي مكان ، إذ يعطس الفلاحون ، ورجال الشرطة ، بل وحتي أحيانا المستشارون السريون . الجميع يعطس ، ولم يشعر تشرفياكوف بأي حرج ، ومسح أنفه بمنديله ، وكشخص مهذب نظر حوله ليري ما إذا كان قد ازعج أحدا بعطسه ، وعلي الفور أحس بالحرج . فقد رأي العجوز الجالس أمامه في الصف الأول يمسح صلعته ورقبته بقفازه بعناية ويدمدم بشيء ما . وعرف تشرفياكوف في شخص العجوز الجنرال بريزجالوف الذي يعمل في مصلحة السكك الحديدية .

وقال تشرفياكوف لنفسه : - لقد بللته... انه ليس رئيسي ، بل غريب ، ومع ذلك فشيء محرج ينبغي أن اعتذر .

وتنحنح تشرفياكوف ومال بجسده إلي الامام وهمس في اذن الجنرال :

- عفوا يا صاحب السعادة ، لقد بللتكم.. لم أقصد .

- لا شيء ، لا شيء .

- أستحلفكم بالله العفو . انني.... لم أكن اريد !

- أووه، اسكت من فضلك ! دعني أصغي !

وأحْرَج تشرفياكوف فابتسم ببلاهة ، وراح ينظر إلي المسرح . كان ينظر ولكنه لم يعد يحس بالمتعة ، لقد بدأ القلق يعذبه ، وأثناء الاستراحة اقترب من بريزجالوف وتمشي قليلا بجواره ، وبعد أن تغلب علي وجله دمدم :

- لقد بللتكم يا صاحب السعادة.. اعذروني.. انني لم أكن اقصد أن...

فقال الجنرال:

- أوووه كفاااك ! أنا قد نسيت وأنت مازلت تتحدث عن نفس الامر ! .

وحرّك شفته السفلي بنفاد صبر .

وقال تشرفياكوف لنفسه وهو يتطلع إلي الجنرال بشك :

( يقول نسيت بينما الخبث يطل من عينيه... ولا يريد أن يتحدث... ينبغي أن أوضح له انني لم أكن أرغب علي الاطلاق... وأن هذا قانون الطبيعة ، وإلاّ ظن أنني أردت أن أبصق عليه ، فإذا لم يظن الآن فسيظن فيما بعد ! ) .

وعندما عاد تشرفياكوف إلي المنزل روي لزوجته ما بدر عنه من سوء تصرف . وخُيِّل إليه أن زوجته نظرت الي الأمر باستخفاف ، فقد جزعت فقط ، ولكنها اطمأنت عندما علمت أن بريزجالوف ( غريب ) .

- ومع ذلك اذهب إليه واعتذر... وإلاّ ظن أنك لا تعرف كيف تتصرف في المجتمعات ! .

- تلك هي المسألة ! لقد اعتذرت له ، ولكنه... كان غريبا... لم يقل كلمة مفهومة واحدة... ثم إنه لم يكن هناك متسع للحديث .

وفي اليوم التالي ارتدي تشرفياكوف حُلّة جديدة ، وقص شعره ، وذهب إلي بريزجالوف لتوضيح الأمر... وعندما دخل غرفة استقبال الجنرال رأي هناك كثيراً من الزوار ورأي بينهم الجنرال نفسه الذي بدأ يستقبل الزوار ، وبعد أن سأل عدة أشخاص رفع عينيه إلي تشرفياكوف . فراح الموظف يشرح له :

- بالأمس في ) اركاديا ) لو تذكرون يا صاحب السعادة عطست و... بلّلتكم من غير قصد.. اعتذر..

- يا للتفاهات.. الله يعلم ما هذا ! .

وتوجه الجنرال إلي الزائر التالي : - ماذا تريد ؟ .

وفكر تشرفياكوف ووجهه يشحب: ( لا يريد أن يتحدث ... إذن فهو غاضب.. كلا ، لا يُمكن أن ادع الأمر هكذا.. سوف اشرح له...) .

وبعد أن أنهي الجنرال حديثه مع آخر زائر واتجه إلي الغرفة الداخلية ، خطا تشرفياكوف خلفه ودمدم :

- يا صاحب السعادة ! إذا كنت أتجاسر علي ازعاج سعادتكم فإنما من واقع الإحساس بالندم !. لم أكن أقصد ، كما تعلمون سعادتكم ! .

فقال الجنرال وهو يختفي خلف الباب :

- إنك تسخر يا سيدي الكريم ! .

وفكر تشرفياكوف : ( أية سُخرية يمكن أن تكون ؟ ... ليس هنا أية سخرية علي الاطلاق ! جنرال ومع ذلك لا يستطيع أن يفهم ! ... إذا كان الأمر كذلك فلن اعتذر بعد لهذا المتغطرس. ليذهب الي الشيطان ! ...سأكتب له رسالة ، ولكن لن آتي اليه... أقسم لن أتي ) ! .

هكذا فكر تشرفياكوف وهو عائد إلي المنزل . ولكنه لم يكتب للجنرال رسالة . فقد فكر وفكر ولم يستطع أن يدبّج الرسالة . واضطر في اليوم التالي إلي الذهاب بنفسه لشرح الأمر . ودمدم عندما رفع إليه الجنرال عينين متسائلتين :

- جئت بالأمس فأزعجتكم يا صاحب السعادة ، لا لكي أسخر منكم كما تفضلتم سعادتكم فقلتم. بل كنت اعتذر لأني عطست فبللتكم... ولكنه لم يدر بخاطري أبدا أن أسخر وهل أجسر علي السخرية؟ فلو رحنا نسخر ، فلن يكون هناك احترام للشخصيات إذن..

وفجأة زار الجنرال وقد ارتعد وأرعد :

- أخرج من هنااا !! .

فسأل تشرفياكوف هامسا وهو يذوب رعبا :

- ماذا ؟ .

فردد الجنرال ودق بقدمه :

- أخرج من هنااا !! .

وتمزّق شيءٌ ما في بطن تشرفياكوف . وتراجع إلي الباب وهو لا يري ولا يسمع شيئا ، وخرج إلي الشارع وهو يجرجر ساقيه.. وعندما وصل آليا الي المنزل استلقي علي الكنبة دون أن يخلع حُلته... ومات.

فانكا - أدب روسي مترجم ل آنطون تشيخوف

0
في ليلة عيد الميلاد لم ينم الصبي " فانكا جوكوف" ابن الأعوام التسعة والذي أعطوه منذ ثلاثة أشهر ‏للاسكافي "الياخين" ليعمل صبياً لديه. وانتظر حتى انصرف أصحاب البيت والاسطوات إلي الصلاة ‏فاخرج من صوان الاسكافي محبرة وقلماً بسن مصدي، وفرش أمامه ورقة مجعدة وراح يكتب. وقبل أن ‏يخط أول حرف نظر إلي الباب والنوافذ بحذر، وتطلع بطرف عينه إلي الأيقونة الداكنة التي امتدت على ‏جانبيها أرفف محملة بالنعال، وزفر زفيراً متقطعاً. كانت الورقة مبسوطة علي الأريكة، أما هو فقد جثا ‏علي ركبتيه أمامها. وكتب:

‏" جدي العزيز " قسطنطين مكاريتش" ! أنا اكتب إليك خطاباً. أهنئكم بعيد الميلاد وأرجو لك من الله كل ‏الخير. أنا ليس لدي أب أو أم، ولم يبق لي غيرك وحدك".‏



وحول " فانكا" بصره إلي النافذة المظلمة التي عكست ضوء شمعته المتذبذب، وتخيل بوضوح جده " ‏قسطنطين مكاريتش" الذي يعمل حارساً ليلياً لدي السادة لدي " آل جيفارف ". و هو عجوز صغير نحيل ‏إلا انه خفيف الحركة بصورة غير عادية، في حوالي الخامسة والستين، ذو وجه باسم دائماً وعينين ثملتين. ‏كان نهاراً ينام في مطبخ الخدم أو يثرثر مع الطاهيات، أما في الليل فيطوف حول بيت السادة متدثراً ‏بمعطف فضفاض من جلد الحمل ويدق علي صفيحة. ومن خلفه يسير مطأطأ الرأسين مع الكلبة العجوز ‏‏"كاشتانكا" والكلب "فيون" الذي سمي هكذا للونه الأسود وجسده الطويل كالنمس.‏



كان هذا الـ " فيون " مهذباً ورقيقاً بصورة غير عادية، وكان ينظر بنفس الدرجة من التأثر سواء ‏لأصحابه أم للغرباء، ولكنه لم يكن يحظى بالثقة. كان يخفي تحت تهذيبه واستكانته خبثاً غادراً إلي أقصي ‏حد. فلم يكن هناك من هو أحسن منه في التلصص في الوقت المناسب ليعض الساق، أو التسلل إلي ‏المخزن، أو سرقة دجاجة من بيت فلاح. وقد حطموا له ساقيه الخلفيتين غير مرة، وعلقوه مرتين، وكانوا ‏يضربونه كل أسبوع حتى الموت، ولكنه كان يبعث من جديد.‏



وربما يقف الجد الآن أمام البوابة ويزر عينيه وهو يتطلع إلي نوافذ كنيسة القرية الساطعة الحمرة، ويثرثر ‏مع الخدم وهو يدق الأرض بحذائه اللباد. والصفيحة التي يدق عليها معلقة إلي خصره،. ويشيح بيديه ثم ‏يتململ من البرد، ويضحك ضحكة عجوز ويقرص الخادم تارة والطاهية تارة أخري.‏



ويقول وهو يقدم للفلاحات كيس تبغه:

‏- ألا ترغبن في استنشاق التبغ؟

وتستنشق الفلاحات ويعطسن، ويستولي علي الجد إعجاب لا يوصف ويقهقه بمرح ويصيح:

‏- بقوة و إلا لزقت!

ويقدمون التبغ للكلاب لتشمه. وتعطس "كاشتانكا" و تلوي بوزها، وتبتعد مغضبة. أما " فيون" فلا يعطس ‏تأدبا، بل يهز ذيله. والجو رائع. الهواء هادئ، وشفاف ومنعش.‏



والليل حالك ومع ذلك تلوح القرية كلها بأسقف منازلها البيضاء وأعمدة الدخان المنبعثة من المداخن، ‏والأشجار وقد كساها الثلج ثوباً فضياً، وأكوام الثلج. والسماء كلها مرصعة بنجوم تتراقص بمرح، ويبدو ‏درب التبانة واضحاً وكأنما غسلوه قبل العيد ودعكوه بالثلج.. وتنهد " فانكا" ، وغمس الريشة في الحبر ‏ومضي يكتب:

‏" بالأمس ضربوني علقة، شدني المعلم من شعري إلي الحوش وضربني بقالب الأحذية لأني كنت أهز ابنه ‏في المهد فنعست غصباً عني. وفي هذا الأسبوع أمرتني المعلمة أن أقشر فسيخة، فبدأت أقشرها من ذيلها، ‏فشدت مني الفسيخة وأخذت تحك رأسها في وجهي. والاسطوات يسخرون مني ويرسلونني إلي الخمارة ‏لشراء "الفودكا" ويأمرونني أن اسرق الخيار من بيت المعلم، والمعلم يضربني بكل ما يقع في يده. وليس ‏هناك أي طعام، في الصباح يعطونني خبزاً، وفي الغداء عصيدة، وفي المساء أيضا خبزاً، أما الشاي أو ‏الحساء فالسادة وحدهم يشربونه. ويأمرونني أن أنام في المدخل، وعندما يبكي ابنهم لا أنام أبداً وأهز المهد. ‏يا جدي العزيز، اعمل معروفاً لله وخذني من هنا إلي البيت في القرية. لم اعد احتمل أبداً... أتوسل إليك ‏وسوف اصلي لله دائماً، خذني من هنا و إلا سأموت..‏



وقلص " فانكا" شفتيه ومسح عينيه بقبضته السوداء وأجهش بالبكاء. ومضي يكتب: " سأطحن لك التبغ، ‏واصلي لله، وإذا بدر مني شيء اضربني كما يُضرب الكلب. وإذا كنت تظن أنه ليس لي عمل فسأرجو ‏الخولي بحق المسيح أن يأخذني ولو لتنظيف حذائه، أو أعمل راعياً بدلاً من " فيدكا" . يا جدي العزيز، لم ‏اعد احتمل أبداً، لا شيء سوي الموت. أردت أن اهرب إلي القرية ماشياً ولكن ليس لدي حذاء واخشي ‏الصقيع، وعندما أصبح كبيراً فسوف أطعمك مقابل هذا ولن اسمح لأحد أن يمسك، وإذا مت يا جدي ‏فسأصلي من أجل روحك كما أصلي من أجل أمي " بيلاجيا". وموسكو مدينة كبيرة.. والبيوت كلها بيوت ‏أكابر، والخيول كثيرة، وليس هناك غنم، والكلاب ليست شريرة. والأولاد في العيد لا يطوفون بالبيوت ‏منشدين ولا يسمح لأحد بالذهاب للترتيل في الكنيسة. ومرة رأيت في أحد الدكاكين، في الشباك، صنانير ‏تباع بخيوطها لصيد كل أنواع السمك، عظيمة جداً، بل وتوجد صنارة تتحمل قرموطاً وزنه "بوذ". ورأيت ‏دكاكين فيها مختلف أنواع البنادق التي تشبه بنادق السادة، ويمكن الواحدة منها تساوي مائة روبل.. وفي ‏دكاكين اللحوم يوجد دجاج الغابة وأرانب، ولكن الباعة لا يقولون أين يصطادونها.‏ يا جدي العزيز، عندما يقيم السادة شجرة عيد الميلاد خذ لي جوزة مذهبة وخبئها في الصندوق. قل للآنسة ‏‏" أولجا اجناتيفنا" أنها من أجل "فانكا".‏



وتنهد " فانكا" وسمر عينيه في النافذة من جديد. وتذكر أن جده كان دائماً يذهب للغابة لإحضار شجرة عيد ‏الميلاد ويصحب معه حفيده. يا له من عهد سعيد! كان الجد يتنحنح والثلج يتنحنح و"فانكا" يتنحنح مثلهم. ‏وكان يحدث أن الجد، قبل أن يقطع الشجرة، يجلس ليدخن الغليون، ويشم التبغ طويلاً وهو يضحك من ‏‏"فانكا" المقرور.. وشجيرات عيد الميلاد الشابة تقف متلفعة بالثلج وساكنة وهي تنتظر أيها التي ستموت؟ ‏وفجأة يمرق أرنب كالسهم عبر أكوام الثلج.. ولا يستطيع الجد أن يمسك نفسه عن الصياح:

‏- امسك، امسك.. امسك!

آه، يا شيطان يا ملعون، ثم يسحب الجد الشجرة المقطوعة إلي منزل السادة، حيث يشرعون في تزيينها.. ‏وكانت الآنسة "اولجا اجتاتيفنا" التي يحبها "فانكا"، هي التي تشغله أكثر من الجميع، وعندما كانت أم ‏‏"فانكا" "بيلاجيا" علي قيد الحياة كانت تعمل خادمة لدي السادة، كانت " اولجا اجتناتيفنا" تعطي " لفانكا " ‏الحلوى، ولما لم يكن لديها ما تعمله فقد علمته القراءة والكتابة والعد حتى مئة، بل وحتى رقصة ‏‏"الكادريل"، ولما ماتت" بيلاجيا"، أرسلوا "فانكا" اليتيم إلي جده في المطبخ مع الخدم، ومن المطبخ إلي ‏موسكو عند الاسكافي "الياخين"...

ومضي فانكا يكتب: " احضر يا جدي العزيز، استحلفك بالمسيح الرب أن تأخذني من هنا. أشفق علي أنا ‏اليتيم المسكين، لان الجميع يضربونني، وأنا جوعان جداً، ولا أستطيع أن أصف لك وحشتي، وابكي طول ‏الوقت. ومن مدة ضربني المعلم بالنعل علي رأسي حتى وقعت ولم أفق إلا بالعافية. ما أضيع حياتي، أسوأ ‏من حياة أي كلب.. تحياتي " لاليونا و "يجوركا الأحول" ، والحوذي، ولا تعط "الهارمونيكا" لأحد. حفيدك ‏دائماً " ايفان جوكوف"، احضر يا جدي العزيز".

وطوي " فانكا" الورقة المكتوبة أربع مرات ووضعها في مظروف كان قد اشتراه من قبل " بكوبيك".. ‏وفكر قليلاً ثم غمس الريشة وكتب العنوان:

إلي قرية جدي

وحك رأسه وفكر، ثم أضاف " قسطنطين مكاريتش". وارتدي غطاء الرأس وهو سعيد لأن أحداً لم يعطله ‏عن الكتابة، ولم يضع المعطف علي كتفيه، بل انطلق إلي الخارج بالقميص فقط...

كان الباعة في دكان الجزار الذين سألهم من قبل قد اخبروه أن الرسائل تلقي في صناديق البريد، ومن ‏الصناديق تنقل إلي جميع أنحاء الأرض علي عربات بريد بحوذية سكاري وأجرس رنانة.

وركض " فانكا" إلي أول صندوق بريد صادفه، ودس الرسالة الغالية في فتحة الصندوق.

وبعد ساعة كان يغط في نوم عميق وقد هدهدت الآمال الحلوة روحه.. وحلم بالفرن. كان جده جالساً علي ‏الفرن مدلياً ساقيه العريانتين وهو يقرأ الرسالة للطاهيات.. وبجوار الفرن يسير " فيون " ويهز ذيله...

المصيبة - أدب روسي مترجم ل آنطون تشيخوف

0
يحمل الخراط جريجوري بتروف زوجته العجوز المريضة إلى المستشفى المحلي,و هو المعروف منذ زمن بعيد كأسطى رائع , و في الوقت نفسه كواحد من أكثر الرجال ضلالا في مقاطعة جالتشينيك كلها. كان عليه أن يقطع حوالي ثلاثين فرسخا , بينما الطريق فظيع لا يقوى عليه حتى حوذي البريد الحكومي , لا هذا الكسول , الخراط جريجوري. ففي الوجه مباشرة تضرب ريح حادة باردة. و في الهواء, حيثما نظرت تدور سحب كاملة من ندف الثلج , حتى أن الناظر لا يعرف هل يسقط الثلج من السماء أم يصعد من الأرض. و من خلف الضباب الثلجي لا يبين الحقل و لا أعمدة البرق و لا الغابة , و عندما تهب على جريجوري دفقة ريح قوية بشكل خاص لا يعود يرى حتى قوس الحصان . و الفرس العجوز المتهالكة تجر قوائمها بالكاد.

فقد تبددت كل طاقتها في سحب القوائم من الثلج العميق و في هز الرأس . كان الخراط متعجلا , و راح يقفز فزق مقعده بقلق و ينهال بالسوط كثيرا على ظهر الفرس , و هو يدمدم :

-لا تبكي يا متريونا .. اصبري قليلاً.ان شاء الله نصل إلى المستشفى, و على الفور يذهب منك هذا ال... سيعطيك بافل ايفانيتش قطرات, أو يأمر بحجمك, و ربما يتفضل فيدلكونك بالكحول , و عندئذ يذهب عن جنبك هذا ال... سيبذل بافل ايفانيتش جهده. سيصيح بنا, و يضرب الأرض بقدميه, لكنه سيبذل جهده. إنه سيد عظيم, عطوف, ربنا يعطيه الصحة... عندما نصل سيخرج على الفور من مسكنه و يبدأ قبل كل شيئ في السباب و الصياح:"كيف ؟ ما هذا ؟ لماذا ؟ لم تأت في الوقت المناسب؟ و هل أنا كلب حتى أضيِّع اليوم كله في مشاكلكم أيها الشياطين؟ لماذا لم تأت في الصباح؟ امش من هنا ! إياك أن تراك عيناي . تعال غدا" . فأقول له :"يا حضرة الدكتور ! يا بافل ايفانيتش! يا صاحب السعادة !" .

-هيا سيري, سيري عليك اللعنة ! هيا !



و ينهال الخراط على الفرس, و دون أن ينظر إلى زوجته العجوز يستطرد و هو يدمدم لنفسه :

"يا صاحب السعادة ! الله شاهد على ما أقول, بحق الصليب. لقد خرجت مع الفجر, و لكن كيف تصل في الموعد اذا كان الرب قد غضب و أرسل هذه العاصفة ؟ ها أنتم ترون بأنفسكم, حتى الفرس الأصيلة لا تقوى على السير , أما أنا فكما ترون ليس عندي فرس بل مصيبة !" فيعبس بافل إيفانيتش و يصيح :"أنا أعرفكم ! دوما تجدون لكم مخرجا! خاصة أنت يا جريشكا ,فأنا أعرفك منذ زمن, تراك الآن عرجت على الحانة خمس مرات !" فأقول له:"يا صاحب السعادة, هل تظنوني عربيدا أم كافرا ! العجوز تلفظ أنفاسها , تموت , و أنا أعرج على الحانات ! ماذا تقولون ! فليحل بها الخراب هذه الحانات !" .

عندئذ يأمر بافل ايفانيتش بنقلك إلى المستشفى . أما أنا فأرتمي على قدميه.. "يا بافل ايفانيتش يا صاحب السعادة ! نشكركم من صميم القلب. سامحنا نحن الحمقى, الملاعين , لا تؤاخذنا نحن الفلاحين ! نستحق منكم الطرد , و بدلا من ذلك تهتمون بنا و تلوثون أقدامكم في الثلج". و ينظر بافل ايفانيتش اليَ و كأنه يريد أن يضربني , و يقول :"بدلا من الإرتماء على قدمي كان من الأفضل أيها الأحمق, ألا تشرب الفودكا , و تعطف على عجوزك. إنك تستحق الجلد."

"عين الحقيقة يا بافل ايفانيتش, أستحق الجلد, أي والله أستحقه ! و كيف لا نرتمي على قدميكم إذا كنتم راعينا و أبانا؟ يا صاحب السعادة ! أقول لكم الحق, و الله شاهد , أبصقوا في عيني لو كنت أكذب عليكم : بمجرد أن تشفى زوجتي متريونا, و تقف على قدميها فسأفعل كل ما أمرتم به ! لو أردتم صنعت لكم علبة سجاير من خشب البتولا الكاريلية, أو كرات للكروكيت , و أستطيع أن أخرط كيلا مثل الأجنبية بالضبط. سأصنع من أجلكم أي شيئ, و لن آخذ منكم كوبيكا. في موسكو يأخذون أربع روبلات مقابل مثل هذه العلبة, أما أنا فلن آخذ كوبيكا" . فيضحك الدكتور و يجيب:"طيب, طيب مفهوم! إنما من المؤسف أنك سكير"..

-إنني أعرف يا أختي العجوز كيف أتعامل مع السادة. لا يوجد سيد لا أتفاهم معه. المهم أن يلطف ربنا و لا نضل الطريق. أوه يا للعاصفة ! تعمي العيون !

و يمضي الخراط في دمدمته بلا توقف. يتحرك لسانه آليا لكي يكبت و لو إلى حد ما إحساسه المرهق. و الكلمات على طرف اللسان كثيرة, و لكن الأفكار و التساؤلات في الرأس أكثر. لقد دهمته المصيبة على غرة , و ها هو الآن لا يستطيع أن يفيق و يثوب إلى رشده و يفهم. كان يعيش حتى الآن بلا هموم , عيشة ساكنة , في غيبوبة ثملة , لا يدري ما الحزن و ما الفرحة , و فجأة أصبح يحس الآن في صدره بألم رهيب. لقد وجد هذا الكسول اللامبالي و السكير نفسه فجأة و بلا مقدمات في وضع رجل مشغول, مهموم , متعجل , بل و رجل يصارع الطبيعة.

و يذكر الخراط أن مصيبته بدأت بالأمس مساء, فعندما عاد إلى البيت, ثملا كالعادة , و راح بحكم العادة القديمة يسب و يلوح بقبضتيه, نظرت العجوز إلى زوجها الهائج كما لم تنظر إليه أبدا من قبل. كانت نظرة عينيها الهرمتين في العادة معذبة , مستكينة , كنظرة الكلب الذي يضربونه كثيرا و يطعمونه قليلا. أما في المساء فكانت نظراتها صارمة و ثابتة كنظرة القديسين في الأيقونات أو الأموات. و من هاتين العينين الغريبتين اللتين لا تبشران بخير بدأت المصيبة. و أسرع الخراط المصعوق إلى جاره يسأله عن حصانه , و ها هو الآن يحملها إلى المستشفى , على أمل أن يعيد بافل ايفانيتش بمساحيقه و مراهمه إلى العجوز نظراتها السابقة.

-اسمعي يا متريونا .. إذا سألك بافل إيفانيتش هل ضربتك أم لا , قولي: أبدا ! و لن أضربك بعد, أقسم لك بالصليب. و هل كنت أضربك عمدا ؟ أبدا, هكذا , بلا داع. أنا أعطف عليك يا متريونا. و لو كان غيري في مكاني لما اهتم. أما أنا فها أنذا أحملك, و أبذل جهدي.

-أوه يا لها من عاصفة ! حكمتك يا رب ! اللهم الطف بنا حتى لا نضل الطريق .. ماذا عن جنبك هل يؤلمك ؟ لماذا لا تردين يا متريونا ؟ .. إنني أسألك : هل جنبك يؤلمك ؟ لماذا لا تردين يا متريونا ؟ إنني أسألك هل جنبك يؤلمك ؟



و يبدو له غريبا أن الثلج لا يذوب عن وجه العجوز, و الغريب أيضا أن وجهها ذاته قد إستطال بصورة خاصة و اكتسب لوناَ رمادياً شاحباً عكراً كالشمع, و أصبح صارماَ جداَ.

و يدمدم الخراط :

-يا لك من حمقاء ! أنا أحدثك من صميم قلبي, يشهد الله و أنت .. هذا .. يا لك حمقاء ! اسمعي و إلا فلن أحملك إلى بافل إيفانيتش !

و يرخي الخياط اللجام و يستغرق في التفكير. و لا يجرؤ على النظر إلى العجوز .. هذا مخيف ! و من المخيف أيضا أن يوجه لها سؤالا فلا يتلقى الجواب. و أخيرا , و لكي يقطع الشك باليقين , يتلمس ذراع العجوز الباردة دون أن يلتفت إليها. و تسقط الذراع المرفوعة كجلدة السوط.

-إذن فقد ماتت ! يا للمصيبة !





و يبكي الخراط. لا من الأسى ماهو بقدر الحنق. و يفكر : ما أسرع ما يجري كل شيئ في هذه الدنيا ! ما إن بدأت مصيبته حتى حلت النهاية . و لم يكد يعيش مع عجوزه , و يصارحها بما في قلبه , و يعطف عليها حتى ماتت. لقد عاش معها أربعين عاما, و لكن هذه الأعوام الأربعين مرت و كأنها ملفعة بالضباب. و من خلف سحب الثمل و العراك و الفاقة لم يكن ثمة إحساس بالحياة. و كأنها نكاية به ماتت العجوز في تلك اللحظة التي أحس فيها أنه يعطف عليها, و لا يقوى على الحياة بدونها, و مخطئ في حقها بصورة رهيبة.



و يتذكر الخراط :

-لقد كانت تتسول ! أنا الذي أرسلتها تسأل الناس خبزا, يا للمصيبة. هذه الحمقاء كان ينبغي أن تعيش عشر سنوات أخرى, و إلا فربما تظن أنني هكذا بالفعل. يا إلهي, إلى أي شيطان أمضي الآن ؟ ينبغي لي دفنها لا علاجها. "هيا,هيا , دوري."

ويدير الخراط الزحافة عائدا بها, و ينهال بكل قوته على الفرس بالسوط. و مع كل لحظة يزداد الطريق سوء. الآن لم يعد قوس الحصان مرئيا على الإطلاق. و أحيانا تدوس الزحافة على شجرة شوح صغيرة, فيخدش هذا الشيء المظلم أيدي الخراط, و يمر بمحاذاة عينيه, ثم يصبح مجال الرؤية من جديد أبيض مدوّما.

و يفكر الخراط :" آه لو تبدأ الحياة من جديد". و يتذكر أن متريونا كانت منذ أربعين عاما شابة جميلة مرحة, من بيت غني. و قد زوجوها منه إذ أغرتهم مهارته كأسطى. و كانت كل المقومات متوفرة لحياة طيبة, و لكن المصيبة أنه منذ أن شرب حتى ثمل بعد حفلة العرس, و تمدد فوق الفرن, فكأنما هو لم يستيقظ حتى الآن. إنه يذكر حفلة العرس, أما ما حدث بعد العرس فلا يذكر شيئا منه على الإطلاق. اللهم إلا أنه كان يشرب و يرقد و يتعارك. و هكذا ضاعت الأعوام الأربعون.



و تبدأ السحب الثلجية البيضاء في التحول شيئا فشيئا إلى اللون الرمادي. و يحل الغسق.

فجأة يستدرك الخراط نفسه:

-إلى أين أنت ذاهب؟ ينبغي دفنها بينما أذهب بها إلى المستشفى , كأنما جننت !

و يدير الخراط الزحافة مرة أخرى, و ينهال من جديد على الفرس. و تستجمع الفرس كل قواها, و تركض بخبب قصير و هي تشخر. و يضربها الخراط بالسوط على ظهرها المرة تلو المرة. و من خلفه تتردد صوت دقاتٍ ما, و رغم أنه لا يلتفت إلا أنه يعرف أن ذلك صوت ارتطام رأس المرحومة بالزحافة. بينما الجو يزداد ظلاما, و تصبح الريح أكثر حدة و برودة.



و يفكر الخراط :"لو تبدأ الحياة من جديد, لحصلت على عدة جديدة, و لتلقيت الطلبات. و لأعطيت النقود للعجوز.. نعم !"

و ها هو يفلت اللجام من يديه. و يبحث عنه, و يريد أن يرفعه و لكنه لا يستطيع. يداه لا تستجيبان له..

و يفكر:" سيان.. ستمضي الفرس بنفسها, فهي تعرف الطريق..فلأنم قليلا.. فالى أن تحين الجنازة و القداس, فلأنم قليلا".

و يغمض الخراط عينيه و ينعس. و بعد قليل يسمع أن الفرس توقفت. و يفتح عينيه فيرى أمامه شيئا مظلما يشبه المنزل أو كومة الدريس. يحاول أن ينزل من الزحافة ليستطلع الأمر, و لكن خدرا شديدا يستولي على جسده كله, حتى أنه يفضل أن يتجمد على أن يتحرك من مكانه, و يغيب في سبات قرير.



يستيقظ في غرفة كبيرة, بجدران مطلية. من النوافذ ينساب ضوء الشمس الساطع. و يرى الخراط أمامه أناساً, و أول ما يفكر فيه هو أن يبدو أمامهم رجلاً رزينا, حصيفا, فيقول :

-ينبغي إقامة قداس العجوز يا إخوان ! فلتخبرو أبانا ..



و لكن صوت يقاطعه :

-طيب, طيب. ارقد.



فيدهش الخراط حين يرى الدكتور أمامه:

-يا مولانا! بافل إيفانيتش ! يا صاحب السعادة ! يا راعينا !

و يود أن يقفز و يرتمي على قدمي الطبيب, و لكنه يشعر أن ساقيه و يديه لا تستجيب له.

-يا صاحب السعادة! أين ساقاي ؟ أين يداي ؟

-ودًع ساقيك و يديك. لقد تجمدت! مهلا .. مهلا لم تبك ؟ عشت حياتك فاحمد الله, تراك عشت ستين سنة, يكفيك هذا!

-مصيبة.. مصيبة يا صاحب السعادة ! أرجو المعذرة و السماح ! لو خمس أو ست سنوات أخرى ..

-لماذا ؟

-الفرس ليست لي, يجب أن أردها, و أدفن العجوز. ما أسرع ما يجري كل شيء في هذه الدنيا ! يا صاحب السعادة! بافل إيفانيتش ! علبة سجاير ممتازة من خشب البتولا الكاريلية! كرة كروكيت أخرطها ..

و يشيح الدكتور بيده و يخرج من الغرفة, و على الخراط السلام !

أنطون تشيخوف

1885

الحارس الليلي - أدب روسي مترجم ل آنطون تشيخوف

0
- مَن هناك؟
لم يأته رد. ولم يكن بمقدور الحارس ان يرى شيئا. رغم زئير الريح المتواصل وارتطامها بالشجر، كان يسمع وقع اقدام تتقدمه على امتداد الطريق. ليلة من ليالي آذار (مارس). السماء ملبدة بالغيوم، والضباب الكثيف يغلف كل شيء، وخيل للحارس بأن الأرض والسماء وهو نفسه مع أفكاره قد توحدوا جميعا في هيئة واحدة هائلة منيعة تتسربل بالسواد. كان يتلمس طريقه في تلك العتمة الكثيفة.<p> </p>عاد الحارس يصيح مناديا:<p> </p>- من هناك؟<p> </p>وبدأ يتخيل بانه يسمع همسا وضحكة مكتومة.<p> </p>- من هناك؟<p> </p>- أنا...ايها الصديق. <p> </p>جاءه صوت رجل عجوز.<p> </p>- ولكن من تكون؟<p> </p>- أنا....مسافر.<p> </p>عندها صرخ الحارس بغضب، وهو يحاول أن يخفي رعبه بالصراخ.<p> </p>- أي نوع من المسافرين أنت؟ ماذا تفعل بحق الشيطان في مثل هذه الساعة داخل المقبرة؟<p> </p>- ماذا ؟! أتقول أنها مقبرة ؟!<p> </p>- وماذا تكون؟ بالطبع أنها مقبرة. الا ترى ذلك؟<p> </p>جاءه صوت الرجل العجوز متنهدا:<p> </p>- يارب السموات! لكني لا أرى شيئا. لا استطيع حتى أن أرى يدي أمام وجهي.<p> </p>- ولكن من تكون؟<p> </p>- أنا حاج...يا صديقي <p> </p>عندها انطلق الحارس يغمغم لنفسه بتذمر:<p> </p>- الشياطين وطيور الليل...نوع جيد من الحجاج...وكذلك السكارى. يسكرون طوال النهار ويخرجون في الليل ليجوبوا الطرقات <p> </p>ثم أضاف بعد لحظة صمت.<p> </p>- يخيل لي اني سمعت أكثر من صوت، كأنكم إثنان أو ثلاثة.<p> </p>- إنني لوحدي يا صديقي، لوحدي. آآآآآآ....كم نرتكب من ذنوب.....<p> </p>وتعثر الحارس بالرجل فتوقف.<p> </p>- كيف جئت إلى هذا المكان؟<p> </p>- فقدت طريقي ايها الرجل الطيب. فأنا متجه إلى (متريفسكي ميل) ولكن يبدو أنني قد ضعت.<p> </p>- نعم، هذا صحيح، فالطريق إلى (متريفسكي ميل) ليست من هنا. كان عليك أن تتجه إلى اليسار. تخرج من المدينة مباشرة لتسلك الطريق الخارجي. واضح انك توقفت في المدينة لتشرب بضعة كؤوس، ولهذا انت الآن تائه.<p> </p>- نعم يا صديقي فعلت ذلك. لن أخفي ذنوبي، ولكن ماذا افعل الآن؟<p> </p>- تستمر حتى نهاية الطريق، ثم تنعطف معه إلى اليمين وتسير حتى تصل البوابة وهي نهاية المقبرة، تفتحها وتخرج مصحوبا بالسلامة. وحاذر أن تسقط في الغدير. بعد المقبرة تسير بمحاذاة الحقول حتى تصل الطريق الرئيسي.<p> </p>- أعطاك الرب الصحة والعافية يا صديقي، وحمتك السموات. كن رحيما معي أيها الرجل الطيب وسر معي حتى البوابة. <p> </p>- لا ليس عندي الوقت لذلك، عليك أن تذهب لحالك.<p> </p>- كن رحيما، وسوف أصلي من أجلك. فأنا لاأستطيع أن أرى شيئا. المرء لايستطيع أن يرى كفيه أمام وجهه بسبب الظلمة. دلني على الطريق يا سيدي. <p> </p>- كما لو أنني لدي الوقت الكافي كي أكون دليلا لك. هذا غير ممكن يا سيد.<p> </p>- بحق السيد المسيح، أتوسل إليك أن تدلني على الطريق، فأنا لا أرى شيئا. ثم إنني أخاف أن أسير وحيدا في المقبرة. إنه أمر مرعب ومخيف.<p> </p>يتنهد الحارس أخيرا ويقول:<p> </p>- يبدو أن لا خلاص منك. حسنا، هيا بنا.<p> </p>وسارا سوية، الحارس والمسافر، متلاصقين وصامتين. وكانت الريح المشبعة بالرطوبة تضرب وجهيهما مباشرة، بينما خشخشة الأشجار الخفية تنثر قطرات الماء عليهما، وكانت الطريق مغطاة بالوحل تماما.<p> </p>قال الحارس بعد فترة صمت دامت طويلا:<p> </p>- نسيت أن أسالك. كيف دخلت المقبرة والبوابة مقفلة؟ هل تسلقت السور؟ إذا كنت حقا قد فعلت ذلك، فهذا آخر شيء اتوقعه من رجل كبير السن.<p> </p>- لا أدري يا صديقي، لا أدري. انا نفسي لا اعرف كيف حصل هذا. إنه عقاب من الله...إذن أنت حارس هنا يا صديقي؟ <p> </p>- نعم.<p> </p>- الوحيد على كل المقبرة؟<p> </p>ضربتهما في تلك اللحظة لفحة ريح هوجاء فتوقفا في مكانهما، وانتظرا حتى تجاوزتهما. عادا ليواصلا سيرهما. أجاب الحارس:<p> </p>- نحن ثلاثة. أحد الإثنين الباقيين مريض بالحمى، والآخر نائم، ويستلم واجبه من بعدي.<p> </p>- آآآآ...فقط اردت أن أتأكد ياصديقي. يا لها من ريح. تعوي كأنها وحش. آوووووووه...<p> </p>- ومن أين أنت قادم؟<p> </p>- من مكان بعيد يا صديقي. أنا من فولوغدا. أتنقل من مكان مقدس إلى آخر وأصلي للناس. فليحفظني الله ويشملني برحمته.<p> </p>توقف الحارس كي يشعل غليونه. إنحنى خلف ظهر المسافر واشعل بضعة عيدان كبريت. وهج العود الأول أضاء لوهلة على الجانب الأيمن من الطريق شاهدة قبر بيضاء بملاك وصليب أسود. العود الثاني توهج وانطفأ بسبب الريح. ظهر كأنه برق مندفع إلى اليسار فكشف عن جانب لشيء أشبه بسقيفة. عود الكبريت الثالث اضاء جانبي الطريق كاشفا عن شاهدة القبر، الصليب الأسود، وسقيفة لضريح طفل. غمغم الغريب وهو يتنهد بصوت مرتفع:<p> </p>- النائمون الغائبون، النائمون الأعزة. كلهم سواء في نومهم، الأغنياء والفقراء، العاقلون والحمقى، الطيبون والأشرار. لا فرق بينهم على الإطلاق، وسيبقون نائمين جميعا حتى النفير الأخير. لتكن جنة الخلد مأواهم يسكنونها آمنين.<p> </p>أجابه الحارس معلقا:<p> </p>- الآن نحن نتحرك ونتحدث عنهم، ولكن سيأتي اليوم الذي نرقد فيه إلى جانبهم.<p> </p><p> </p>- دون شك سنموت جميعا. ليس هنالك من لا يموت. آآآآ...وافعالنا، وأفكارنا..شريرة، ماكرة ومخادعة...<p> </p>- نعم ، لكنك ستموت يوما.<p> </p>- دون شك يا صديقي.<p> </p>يواصل الحارس تعليقه قائلا:<p> </p>- الموت على حاج أسهل منه على أشخاص مثلنا.<p> </p>- الحجاج أنواع، هنالك الحقيقيون الذين يخافون الله ويحرصون على عدم معصيته، وهنالك التائهون الضائعون في المقابر يوسوس لهم الشيطان بشتى المعاصي. يستطيع أحدهم الآن أن يفتح رأسك بفأس ويضع حدا لحياتك.<p> </p>- لماذا تتحدث معي بهذا الشكل؟<p> </p>- اوه..لا شيء، مجرد خيالات. أعتقد أننا وصلنا البوابة، هيا افتحها أيها الرجل الطيب.<p> </p>تحسس الحارس طريقه نحو البوابة و..فتحها، ثم أمسك بالحاج من كم ردائه وقاده إلى الخارج قائلا:<p> </p>- هذه هي نهاية المقبرة، والآن عليك أن تسير عبر الحقول المفتوحة حتى تصل الطريق الرئيسي. فقط حاذر من السقوط في الغدير القريب من هنا. <p> </p>يتنهد الحاج بعد لحظة صمت ويقول:<p> </p>- لا أظن أني سأذهب إلى (متريفسكي ميل). لا أرى سببا لذلك. سأبقى معك بعض الوقت يا سيدي.<p> </p>- ولأي سبب تبقى معي؟<p> </p>- أوه..أعتقد أن البقاء معك أفضل.<p> </p>- إذن، فقد وجدتَ رفقة حسنة. أرى أنك مولع بالمزاح أيها الحاج.<p> </p>قال الحاج وهو يكتم ضحكة غليظة:<p> </p>- إذا أردت الحق، نعم، أنا كذلك. آآآآ...أيها الرجل الطيب، أراهن أنك ستظل تتذكرني لسنوات طويلة.<p> </p>- ولماذا... سأظل أتذكرك؟<p> </p>_ لقد أتيتك من حيث لا تدري....فهل أنا حاج؟ لا..أنا لست حاجا على الإطلاق.<p> </p>- فماذا تكون إذن؟<p> </p>- مجرد رجل ميت. لقد نهضت من تابوتي للتو. أتذكر صانع الأقفال غوبارييف الذي شنق نفسه في أسبوع الكرنفال؟ حسنا، أنا غورباييف.<p> </p>- قل شيئا آخر.<p> </p>لم يصدقه الحارس، لكن قشعريرة باردة سرت في جسده، واستولى عليه رعب ضاغط، فاندفع متعجلا يتحسس البوابة. لكن الغريب أمسك به من ذراعه وصاح به:<p> </p>- هَه..هَه..هَه، أين أنت ذاهب؟ هل من اللياقة أن تتركني لوحدي. <p> </p>عندها صرخ الحارس وهو يحاول ان يتحرر من قبضة الغريب:<p> </p>- أتركني، أتركني...<p> </p>- توقفْ. قلت لك توقفْ..، فلا تقاوم ايها الكلب القذر. إذا أردتَ أن تبقى بين الأحياء، فتوقفْ وامسك لسانك حتى أقول لك. لو كنتُ اريد قتلك، لكنتَ الآن ميتا منذ زمن. هيا..توقفْ أيها الخسيس...<p> </p>ومن شدة رعبه، أغلق الحارس عينيه، متكئا على السور. وكانت ساقاه تهتزان بشدة تحته. كان يريد أن يصرخ مستنجدا، لكنه كان يعرف بأن صوته لن يصل أحدا من الأحياء. وكان الغريب واقفا إلى جانبه ممسكا بذراعه. <p> </p>مرت ثلاث دقائق دون أن يتكلما. أخيرا خرق الغريب الصمت محدثا نفسه:<p> </p>- أحدهم مصاب بالحمى، والآخر نائم، والثالث يرى حُجاجا على الطريق. هل تعرف بأن اللصوص أكثر شطارة منكم. توقفْ.. لاتتحرك..<p> </p>ومرت عشر دقائق وهما في صمت تام. فجأة جلبت الريح صوت صفير. عندها قال الغريب تاركا ذراع الحارس:<p> </p>- الآن يمكنك ان تذهب. هيا اذهب واشكر ربك لأنك ما تزال حيا. <p> </p>أطلق الغريب صفيرا أيضا، وركض عبر البوابة، وسمعه الحارس وهو يقفز فوق الغدير.<p> </p>كان ما يزال يرتعد من رعبه، عندما فتح البوابة وانطلق يركض وهو مغمض العينين، وفي داخله يراوده إحساس ينذر بالشر.<p> </p>وعند انعطافته إلى الطريق الرئيسي، سمع وقع خطوات مسرعة، وصوتا يسأل:<p> </p>- أهذا أنت يا تيموفي؟ أين ميتكا؟<p> </p>وظل يركض حتى نهاية الطريق الرئيسي، عندها لاح له ضوء خافت في العتمة. وكان خوفه وإحساسه بوقوع الشر يتعاظم ويكبر وهو يدنو من الضوء. قال محدثا نفسه:<p> </p>- يبدو أن الضوء قادم من الكنيسة. ولكن كيف حصل هذا؟ فليحمني الرب ويشملني برحمته. <p> </p>وقف الحارس لبرهة أمام النافذة المحطمة، ينظر برعب إلى المذبح. كانت هنالك شمعة صغيرة، يبدو ان اللصوص نسوا أن يطفئوها، كان ضوءها يهتز مع الريح، فينشر بقعا داكنة حمراء فوق الأردية المتناثرة على الارض، والخزانة المقلوبة وآثار الأقدام المنتشرة عند المذبح. <p> </p>مر بعض الوقت والحارس متسمر في موضعه، والريح تعوي.. ويختلط عواؤها بخشخشة وصليل الأجراس...

فولوديا الكبير وفولوديا الصغير - أدب روسي مترجم ل آنطون تشيخوف

0
ـ أريد أن أقود بنفسي، أرجوك اسمح لي، سأجلس بقرب الحوذي ـ قالت صوفيا لفوفنا بصوت عالٍ.‏

ـ انتظر لحظة أيها الحوذي، سأجلس بجانبك في المقعد.‏

كانت تقف في العربة، بينما كان زوجها فلاديمير نيكيتش، وصديق طفولتها فلاديمير ميخايليتش يمسكان بها من ذراعيها كي لا تقع. انطلقت الترويكا(1) مسرعة.‏

ـ قلت لك ألا تعطيها الكونياك.‏

همس فلاديمير نيكيتش لرفيقه بانزعاج.‏

كان الكولونيل يعرف من تجربة سابقة أن حالة الابتهاج الصاخب أو بالأحرى الثمل بالنسبة لامرأة مثل زوجته صوفيا لفوفنا عادة ما يعقبها ضحك هستيري ومن ثم بكاء. وقد كان قلقاً الآن لأنه حال وصولهم إلى البيت سيتوجب عليه الانشغال بالكمادات وجرعات الدواء بدلاً من الذهاب إلى السرير.‏

ـ هِشْ! ـ صرخت صوفيا لفوفنا ـ أريد أن أقود.‏

كانت فرحة ومسرورة حقاً، فطوال شهرين، ومنذ يوم زفافها بالذات، كان يعذبها التفكير بأنها تزوجت الكولونيل لمصلحة، أو كما يقال Par depit(2). واليوم على أية حالة، أدركت أخيراً في مطعم خارج البلدة أنها تحبّه بشغف.‏

فعلى الرغم من أعوامه الأربعة والخمسين، كان متين البنية، رشيقاً، مرن الأعطاف، يحسن التلاعب بالألفاظ والمشاركة في أغاني الفتيات الغجريات.‏

حقاً، في أيامنا هذه، يعدّ الرجال الأكبر سناً أكثر جاذبية من الشباب اليافعين بألف مرّة، حتى ليخيّل للمرء أن الشيخوخة والصبا قد تبادلا الأدوار.‏

كان الكولونيل يكبر أباها بسنتين، ولكن، أكان من الممكن أن يكون لهذا معنىً، إن كان يقيناً يفوقها هي نفسها حيوية ونشاطاً وغضارة، ودون أن يكون هناك أي مجال للمقارنة بينهما، على الرغم من أنها كانت ما تزال في الثالثة والعشرين من عمرها بعد؟‏

آه يا عزيزي ـ فكرت ـ أنت رائع.‏

في المطعم أدركت أيضاً أنه لم يتبق في قلبها حتى مجرد ومضة من شعورها السابق، والآن كانت تشعر بلا مبالاة تامة تجاه فلاديمير ميخايليتش صديق طفولتها، أو فولوديا كما كان يدعى، والذي كانت ما تزال حتى البارحة تحبه إلى حد الجنون واليأس. فقد بدا لها طوال الأمسية فاتراً، ناعساً، مملاً وعديم الشأن. على أن لا مبالاته التي كانت تصحب تهربه المألوف من دفع فواتير المطعم، جعلتها الآن تشعر بالاشمئزاز، وبالكاد تمالكت نفسها من القول "إن كنت لا تملك نقوداً، فعليك البقاء في المنزل". دفع الكولونيل.‏

وربما لأن الأشجار وأعمدة التلغراف والثلوج المتراكمة مرّت مروراً خاطفاً أمام عينيها، كانت تخطر على بالها أفكار مختلفة: بلغت فاتورة المطعم مائة وعشرين روبلاً، والغجر ـــ مئة، وبإمكانها غداً إلقاء ألف روبل في الهواء إن أرادت، ولكنها قبل شهرين من زواجها لم تكن تملك حتى ثلاثة روبلات، وكان يتوجب عليها مراجعة أبيها بشأن أتفه الأمور. يا لهذا التحوّل الكامل في حياتها!‏

كانت أفكارها مشوشة للغاية، وتذكرت أيضاً أن الكولونيل ياغيتش، الذي هو زوجها الآن، كان قد تودد إلى خالتها، عندما كانت هي في العاشرة من عمرها. وكان جميع أهل المنزل يقولون آنذاك أنه دمرها. كما تذكرت كيف أن خالتها غالباً ما كانت تنزل لتناول الغداء دامعة العينين، وكيف كانت تغادر المنزل بين الحين والحين، حتى قيل إنه ليس في وسع هذه المخلوقة البائسة أن تجد راحة في أي مكان.‏

آنذاك كان وسيماً جداً، وكان نجاحه الباهر مع النساء قد أكسبه شهرة في البلدة كلها، حتى راحت تُحكى عنه الحكايات. ويقال إنه كان يتردد على المعجبات به كما يعود الطبيب مرضاه. وبالرغم من شعره الأشيب وتجاعيده ونظّارته، وبالرغم من نحول وجهه، فإنه حتى الآن يبدو بهي الطلعة، لاسيّما إذا نظرنا إليه من الجانب.‏

كان والد صوفيا لفوفنا طبيباً عسكرياً، وقدّر لـه في وقت مضى أن يخدم مع ياغيتش في الفوج نفسه. وكان والد فولوديا طبيباً عسكرياً أيضاً، وخدم في الماضي مع والد صوفيا وياغيتش في الفوج ذاته. وبغض النظر عن المغامرات العاطفية التي غالباً ما كانت معقدة وعاصفة، كان فولوديا طالباً ممتازاً، أنهى دراسته الجامعية بتفوق، ثم قرر التخصص في مجال الأدب الأجنبي، وقيل إنه يكتب أطروحة.‏

كان يقيم حالياً في الثكنات مع والده الطبيب العسكري دون أي نقود يملكها، مع أنه قد بلغ الثلاثين. في طفولتهما، عاش فولوديا وصوفيا لفوفنا في شقتين مختلفتين، ولكن دائماً تحت سقف واحد، وكثيراً ما كان يزورها للعب، ومعاً تعلما الرقص واللغة الفرنسية. ولكن عندما كبر وأصبح شاباً ممشوق القامة وسيما، بدأت تشعر بالخجل منه، ثم أغرمت به بجنون، وظلت تحبه إلى أن تزوجت ياغيتش.‏

كان لفولوديا أيضاً نجاح باهر مع النساء، فمنذ الرابعة عشرة من عمره تقريباً، كانت النساء اللواتي يخنّ أزواجهن معه يبررن لأنفسهن أن فولوديا كان فتى صغيراً.‏

ومنذ وقت ليس بالبعيد تناقلت الألسن عنه قصة، وهي أنه عندما كان طالباً كان يقيم في غرفة مفروشة قرب الجامعة، وكان يقترب من الباب كلما دقّ ويعتذر بصوت خافت "Pardon, Je ne suis las seul"(3).‏

اعتاد ياغيتش أن يفيض ابتهاجاً حياله، وتنبأ لـه بمستقبل عظيم كما تنبأ درجافن(4) لبوشكين، إذ يبدو أنه كان يحبه.‏

كانا يلعبان البلياردو والبيكيت لمدة ساعة وهما صامتان، وكان ياغيتش يصحب معه فولوديا أينما ذهب في الترويكا، وكذلك لم يُطلع فولوديا على أسرار أطروحته أحداً غير ياغيتش.‏

وقبل ذلك، عندما كان الكولونيل أصغر سناً، غالباً ما وجدا نفسيهما غريمين يتنافسان، ولكن لم يكن للغيرة مكان بينهما قط، وإذا ما اجتمعا في بيوت علية القوم، كان ياغيتش يُعرف بفولوديا الكبير، وصديقه بفولوديا الصغير.‏

وفضلاً عن فولوديا الكبير وفولوديا الصغير، وصوفيا لفوفنا، كان هناك شخص آخر في العربة، إنها مارغريتا ألكساندرفنا، أو ريتا كما كانت تدعى، قريبة زوجة ياغيتش، وهي فتاة تعدّت الثلاثين، شاحبة الوجه، لها حاجبان أسودان، وتضع نظارة دون ذراعين.‏

كانت تدخن سيجارة تلو الأخرى، حتى في جو الصقيع القارص، فهناك دوماً رماد على صدرها وركبتيها. كانت تخن في كلامها وتمط كل لفظة تقولها. زد على ذلك أنها امرأة باردة، قادرة على تجرع الليكيور والكونياك بأي قدر تشاؤه دون أن تثمل. كانت تروي فكاهات مريبة بطريقة ذابلة غير مستحبة. وفي المنزل، كانت تقرأ صحفاً سميكة من الصباح حتى المساء، تبعثر الرماد فوقها أو تلوك تفاحاً مجمداً.‏

ـ توقفي يا سونيا عن إحداث هذا الضجيج! ـ قالت بصوت مترنم ـ حقاً، إن هذا سخيف.‏

حين اقتربت من بوابة المدينة، تباطأت حركة الترويكا، فتراءت البيوت والناس بصورة خاطفة، والتصقت صوفيا لفوفنا بزوجها وقد هدأت واستغرقت في التفكير. كان فولوديا الصغير جالساً قبالتها، فيما اختلطت الآن أفكارها المشرقة السعيدة بأفكار أخرى كئيبة.‏

فقد جال في خاطرها: هذا الرجل الجالس قبالتها كان يعرف أنها تحبه، ومن المؤكد أنه صدّق الإشاعة القائلة إنها تزوجت الكولونيل par depit. لم تبح لـه بحبها يوماً أبداً، ولم تشأ أن يعرف بذلك، فأخفت مشاعرها عنه، ولكن بدا جلياً من نظرته أنه كان يفهمها جيداً، بينما عانت كبرياؤها بسبب ذلك. إلا أن الحقيقة الأكثر إهانة لها كانت تتمثل في أن فولوديا الصغير راح يعيرها اهتمامه فجأة بعد زواجها، وهذا شيء لم يكن لـه وجود من قبل. فقد أخذ يجلس معها صامتاً لساعات، أو يثرثر في أمور تافهة، والآن، عندما كانوا راكبين في الترويكا، شرع يدوس على رجلها بخفة تارةً، ويضغط على يدها تارة أخرى دون أن ينبس بكلمة واحدة. كان واضحاً أنه أراد لها أن تتزوج فقط، مثلما كان واضحاً أنه يحتقرها وأنه كانت تثير في داخله نوعاً محدداً من الاهتمام فحسب، بوصفها امرأة فاسدة وغير مستقيمة.‏

ولما كان شعورها بالانتصار والحب تجاه زوجها قد اختلط بالخزي والكبرياء المجروحة، فقد راودتها رغبة ملحة بالمشاكسة، لدرجة أنها أرادت الجلوس في مقعد الحوذي كي تصرخ وتصفر.‏

وبينما هم يمرون بدير نسوي ترامى إلى أسماعهم صوت جرس عظيم يزن نحو عشرين طناً، فرسمت ريتا إشارة صليب على صدرها.‏

ـ عزيزتنا أوليا في هذا الدير. قالت صوفيا لفوفنا وصالبت أيضاً بارتجاف.‏

ـ لماذا التحقت بالدير؟ سأل الكولونيل.‏

ـ par depit ـ أجابت ريتا في تلميح ساخر منها إلى زواج صوفيا لفوفنا من ياغيتش ـ إنها عادة دارجة هذه الـــ par depit. إنها تحدٍّ للعالم أجمع، لقد كانت أوليا تقهقه بصوت عال وتتغنج بطيش، وقد كان أمر العشّاق والحفلات الراقصة هو شغلها الشاغل، ولكن بغتة ـ انظروا ما حصل! لقد فاجأت الجميع.‏

ـ هذا ليس صحيحاً ـ أجاب فولوديا الصغير وهو يثني ياقته المصنوعة من الفرو، ويكشف عن وجهه الوسيم. ـ لم يكن هناك أية par depit، بل بالأحرى خوف محض إذا ما أردت أن توجهي الموضوع هذه الوجهة. فقد حكم على أخيها دميتري بالأشغال الشاقة، ومكان وجوده غير معروف الآن، وتوفيت أمها من فرط حزنها. رفع فولوديا ياقته مجدداً واستأنف بلا مبالاة: تصرفت أولياً تصرفاً صائباً، تصوروا فقط أنها تعيش كلقيط وبالأحرى مع جوهرة مثل صوفيا لفوفنا! هذا ليس بالأمر السهل.‏

أدركت صوفيا لفوفنا نبرة الاحتقار في صوته، فأرادت أن ترد عليه بشيء ناب، ولكنها لزمت الصمت، ثم عاودتها الرغبة ذاتها بالمشاكسة، فهبّت واقفة على قدميها، وصرخت بصوت باكٍ: أريد الذهاب إلى صلاة الصباح، ارجع أيها الحوذي، أرغب برؤية أوليا!‏

نفذ الحوذي أمرها. كان طنين جرس الدير عميقاً للغاية، وبدا أن ثمة شيئاً فيه ذكّر صوفيا لفوفنا بأوليا وحياتها، وبدأت الأجراس تقرع في الأديرة الأخرى أيضاً.‏

عندما أوقف الحوذي الترويكا، وثبت صوفيا لفوفنا من العربة وحدها، وتوجهت نحو البوابة مسرعة لا يرافقها أحد.‏

ـ أسرعي، أرجوك! صرخ زوجها، فالوقت متأخر.‏

عبرت صوفيا لفوفنا البوابة المظلمة، ثم الممر المؤدي إلى الكنيسة. كان الثلج الخفيف يهسهس تحت قدميها، وقرع الجرس فوق رأسها حتى خيّل إليها أنه يخترق كيانها كله.‏

هاهو باب الكنيسة وهو يفضي بعد هبوط ثلاث درجات إلى رواق طويل تتدلى على جانبيه صور القديسين. كانت رائحة البخور والعرعر تعمّ هذا المكان الذي ينتهي إلى باب بدا أنه يُفتح ويظهر منه خيال عاتم لامرأة تنحني لها. لم تكن الصلاة في الكنيسة قد بدأت بعد. كانت هناك راهبة تتحرك أمام المحراب الكنسي وتشعل الشموع في شمعداناتها، بينما انشغلت أخرى بإضاءة الثريا. وقريباً من الأعمدة والمقاعد الجانبية تبدّت هيئات أشخاص يقفون في الظلمة ساكنين: هذا يعني أنهم سيقفون على هذه الحال، بلا حراك، حتى طلوع الصباح ـ فكرت صوفيا لفوفنا، وبدا لها المكان مظلماً، بارداً وموحشاً، بل وأكثر وحشة من المقبرة ذاتها. نظرت حولها بغمٍّ إلى الهيئات الجامدة الساكنة وانقبض صدرها فجأة إذ تمكنت بطريقة ما من تبيّن أوليا في راهبة ضئيلة الحجم، نحيلة الكتفين، تغطي رأسها بمنديل أسود، على أن أوليا كانت قبل دخولها إلى الدير ممتلئة الجسم، وتبدو أطول قامة.‏

اقتربت صوفيا لفوفنا من المبتدئة مترددة ومتوترة جداً دون أن تعرف السبب، نظرت إلى أوليا عبر كتفها فعرفتها.‏

ـ أوليا! ـ قالت وضربت كفاً بكف وهي تنطق الاسم بالكاد من شدّة تأثرها، ـ أوليا!‏

عرفتها الراهبة على الفور فرفعت حاجبيها دهشة، فيما بدا وجهها الشاحب النظيف الطاهر، وحتى غطاء الرأس الأبيض الصغير الظاهر من تحت منديلها، مشرقين من شدّة الفرح.‏

ـ يا لها من معجزة سماوية! قالت وهي تضرب يديها النحيلتين والشاحبتين بعضهما ببعض هي الأخرى. ثم عانقتها صوفيا لفوفنا بقوة وقبّلتها، إلا أنها كانت تخشى أن تفوح منها رائحة الخمرة.‏

كنا عابرين للتو فتذكرناك ـ قالت منقطعة الأنفاس كما لو أنها مشت مسرعة ـ يا إلهي، كم أنت شاحبة! إنني سعيدة لرؤيتك، ما أخبارك؟ كيف حالك؟ هل تشعرين بالملل؟‏

نظرت صوفيا لفوفنا حولها إلى الراهبات الأخريات، ثم تابعت بصوت خافت: لقد تغيّرت أمور كثيرة في المنزل، أتعرفين؟ أنا تزوجت يا غيتش، فلاديمير نيكيتش، ما زلت تذكرينه، وأنا في غاية السعادة معه.‏

ـ حسناً، الحمد لله، وهل والدك على ما يرام؟‏

ـ نعم. إنه على ما يرام، وهو غالباً ما يتذكرك. أرجو يا أوليا أن تزورينا أيام العطل، أتسمعينني؟‏

ـ سآتي. قالت أوليا وارتسم على محياها طيف ابتسامة ـ سأجيء في اليوم الثاني من العطلة.‏

انخرطت صوفيا لفوفنا بالبكاء دون أن تعرف سبباً لذلك، بكت بصمت للحظة، ثم جففت عينيها وقالت: شدّ ما ستأسف ريتا لأنها لم تركِ، فهي بصحبتنا أيضاً، وفولوديا هنا كذلك، إنهما أمام البوابة الآن، كم سيكون سرورهما عظيماً لو خرجت لرؤيتهما! هيا، فالصلاة لم تبدأ بعد.‏

ـ هيّا، فلنذهب. وافقت أوليا. فصلّبت ثلاث مرّات وتوجهت مع صوفيا لفوفنا نحو الباب المؤدي إلى الخارج.‏

ـ إذن تقولين يا سونيتشكا إنك سعيدة؟ ـ سألت أوليا ما إن اجتازتا البوابة.‏

ـ جداً!‏

ـ حسناً، الحمد لله.‏

ترجّل فولوديا الكبير وفولوديا الصغير من العربة إذ لمحا الراهبة، فحيّاها باحترام، وكان واضحاً كم أثّرت فيهما رؤية وجهها الشاحب، وجبّة الراهبات السوداء، فقد سرّهما أنها تذكرتهما وخرجت تسلّم عليهما. لفتها صوفيا لفوفنا ببطانية تقيها البرد، وألقت عليها طرفاً من معطفها الفرو. كانت الدموع التي ذرفتها تواً قد أراحت قلبها وأبهجته، وكانت سعيدة لأن هذه الليلة الصاخبة، المضطربة والمتهتكة في حقيقة الأمر قد انتهت بنقاء ولطف دون سابق توقع. ورغبة منها في إبقاء أوليا مدّة أطول اقترحت: دعونا نصحبها في نزهة، اجلسي يا أوليا، سنقوم بنزهة قصيرة ليس إلاّ.‏

توقع الرجلان من الراهبة أن ترفض ـ فليس من عادة الأتقياء ركوب الترويكا، ولكن كم كان ذهولهم كبيراً حين وافقت الراهبة وجلست في العربة! وعندما انطلقت الترويكا كالسهم نحو بوابة المدينة، لزموا الصمت جميعاً، ولم يكن لهم من همٍّ إلا أن تنعم بالدفء والراحة، وهم غارقون في التفكير: كيف كانت من قبل وكيف هي الآن.‏

بدا وجهها الآن جامداً خالياً من أية تعابير تقريباً، بارداً وشاحباً وشفافاً كما لو أن ماءً يجري في عروقها وليس دماً، مع أنها قبل سنتين أو ثلاث كانت مكتنزة الجسم متوردة الخدّين، تتحدث عن العرسان وتطلق ضحكتها المدوية لأتفه الأمور.‏

استدارت الترويكا قرب بوابة المدينة، ثم توقفت قرب الدير بعد مضي عشر دقائق، فنزلت أوليا فيما كانت أجراس الكنيسة تُقرع الآن في برجها.‏

ـ بارككم الله. قالت أوليا، وانحنت على طريقة الراهبات.‏

ـ أرجوك يا أوليا، زورينا.‏

ـ سأفعل، سأفعل. وابتعدت أوليا سريعة الخطى، وسرعان ما ابتلعتها البوابة المظلمة. وما إن استأنفت الترويكا انطلاقها حتى شعر الجميع بكآبة ثقيلة.‏

لم ينبس أحد ببنت شفة. وشعرت صوفيا لفوفنا بوهن في أوصالها وخارت عزيمتها، لقد خيّل إليها أنّ إجبارها الراهبة على ركوب العربة والتنزه برفقة ثملة تصرّف غبي غير لبق، ويكاد يكون استهتاراً بالمقدسات. زال ثملها وكذلك رغبتها بخداع نفسها، وغدا واضحاً لها أنها لا تحب زوجها، وليس بمقدورها أن تحبه أبداً، وأن الأمر برمّته هراء وحماقة. لقد تزوجت زواج مصلحة، قوامه، وفقاً لرأي زميلاتها، أن الزوج فاحش الثراء، وإنه لأمر مرعب أن تبقى عانساً، مثل ريتا! ثمّ إنها ملّت أباها الطبيب وأرادت إغاظة فولوديا الصغير.‏

ولو كانت قادرة أن تخمّن قبل الزواج أنه سيصعب عليها التحمل الذي سيكون أمراً فظيعاً وبشعاً، لكانت رفضت هذا الزواج ولو عرضوا عليها كل ثراء العالم. ولكن ما حصل لا يمكن تغييره الآن، وعليها قبوله. حين رجعوا إلى المنزل، استلقت في سريها الدافئ الناعم، وألقت الأغطية على نفسها، فتذكرت رواق الكنيسة المظلم ورائحة البخور، والهيئات المنتصبة بجانب الأعمدة. كانت تريعها فكرة أن هؤلاء الأشخاص سيبقون واقفين هناك بلا حراك طوال فترة نومها، وأن صلاة الفجر ستدوم وقتا طويلاً جداً، ثم تعقبها ساعات، ثم صلاة النهار وبعدها الصلوات القصيرة.‏

"ولكن الإله موجود حقاً، إنه موجود على الأرجح. ولا شك أني سأموت، وهذا يعني أنه يتوجب على المرء عاجلاً أم آجلاً، أن يفكر في الروح والحياة الأبدية، مثل أوليا. لقد حصلت أوليا على الخلاص الآن، لقد حسمت كل الأمور مع نفسها، ولكن، إذا لم يكن هناك إله؟ ستكون حياتها قد هدرت سدىً، أتكون قد ضاعت فعلاً؟ ولِمَ تضيع؟ وبعد دقيقة خطرت في ذهنها فكرة:‏

إن هناك إلهاً، والموت آتٍ لا محالة، وعلى المرء أن يفكر في روحه، إن كان مقدّراً على أوليا أن تلاقي حتفها في هذه اللحظة بالذات، فإنها لن تجزع، إنها مستعدة، ولكن الشيء المهم هو أنها قد حسمت أمور حياتها مع نفسها سلفاً".‏

هناك إله.... أجل... ولكن، أمَا هناك من طريقة غير الترهب؟ فالالتحاق بالدير يعني حقاً إيقاف الحياة وتدميرها". تملَّكها الخوف قليلاً، فغطّت رأسها بالمخدة.‏

ـ يجب ألا أفكر في هذا... يجب ألا أفكر...‏

كان ياغيتش يذرع الغرفة المجاورة جيئة وذهاباً، يخشخش بمهمازه على نحو خافت مستغرقاً بالتفكير بأمر أو بآخر. باغت صوفيا لفوفنا التفكير بأن هذا الرجل كان قريباً وعزيزاً عليها لمجرد سبب واحد، وهو كون اسمه فولوديا أيضاً، فجلست في سريرها ونادت بلطف: فولوديا.‏

ـ ما الأمر؟ ردّ زوجها.‏

ـ لا شيء.‏

وعادت إلى الاستلقاء.‏

تناهى إلى سمعها طنين أجراس، ربما كان مصدره الدير نفسه. وذكّرتها هذه الأجراس من جديد برواق الكنيسة والهيئات المظلمة المنتصبة. دارت في ذهنها أفكار عن الإله وعن الموت المحتّم، غطّت رأسها كي لا تسمع هذا الطنين.‏

فكرت: إن أمامها حياة طويلة تفصلها عن الشيخوخة والموت، ويتوجب عليها أن تتحمّل الحياة قرب الرجل الذي لا تحبّه، والذي ولج الآن إلى غرفة النوم وهو في طريقه إلى الفراش، وستكون مجبرة أن تكتم في نفسها حبّها اليائس لرجل آخر، فتي وجذاب، رجل بدا لها شخصاً خارقاً.‏

ألقت نظرة على زوجها وأرادت أن تقول لـه تصبح على خير، إلا أنها عوضاً عن ذلك انفجرت باكية. كانت مستاءة من نفسها.‏

ـ حسناً، ها قد بدأت الموسيقى ـ قال وهو يمطّ حرف الياء.‏

استعادت صوفيا لفوفنا هدوءها، ولكن بعد مرور فترة طويلة نسبياً، حوالي العاشرة صباحاً. توقفت عن البكاء والارتعاد، ولكن عوضاً عن ذلك تملّكها صداع شديد.‏

كان يا غيتش يسرع بالاستعداد للقدّاس المتأخر، وهو في الغرفة المجاورة يزمجر في وجه خادمه الذي يساعده على ارتداء ثيابه. دخل إلى غرفة النوم وهو يخشخش بمهمازه على نحو خافت. أخذ شيئاً ما، ثم دخل مرّة أخرى مرتدياً كتفيتيه وأوسمته، ويعرج في مشيته على جري عادته بسبب الروماتيزم. ولسبب ما خيّل لصوفيا لفوفنا إنه كان يمشي وهو يتلفت حوله كحيوانٍ مفترس.‏

سمعته يتكلّم بالهاتف: من فضلك اعمل معروفاً، صلني مع ثكنات فاسيلفسكي! ـ ثم استأنف بعد لحظة: ثكنات فاسيلفسكي؟ اطلب من السيد ساليموفيتش أن يكلمني من فضلك...‏

وبعد لحظة أخرى: من يكلمني؟ أهذا أنت يا فولوديا؟ إني سعيد جداً لسماعك، يا عزيزي، اطلب من والدك أن يعرج علينا فوراً، فزوجتي في حالة سيئة جداً بعد نزهة البارحة... ليس في المنزل؟... هممم... شكراً لك، يا للروعة!... إني ممتن جداً... مرسي.‏

دخل ياغيتش إلى غرفة النوم للمرة الثالثة، فانحنى فوق زوجته ورسم إشارة الصليب، ثم مدّ يده لتقبّلها ـ فالنساء اللواتي أحببنه كنّ يقبّلن يده دوماً، وقد كان معتاداً على ذلك ـ قال إنه سيعود للعشاء وخرج.‏

في الثانية عشرة أعلنت الخادمة عن قدوم فلاديمير ميخايلتش، فنهضت صوفيا لفوفنا مترنحة بسبب وهنها وصداعها. وسرعان ما ارتدت ثوبها الليلكي المزيّن بالفرو، واللافت للنظر، مشّطت شعرها على عجلة منها كيفما تفق. شعرت برقة في قلبها تفوق حدود الوصف. كانت ترتجف فرحاً وخوفاً من أن يذهب.‏

آه ليتها فقط تستطيع أن تراه!‏

جاء فولوديا الصغير زائراً وهو على أتمّ هندام يرتدي لباساً رسمياً ولفاعاً أبيض. وعندما دخلت صوفيا لفوفنا ردهة الاستقبال قبّل يدها وعبّر عن أسفه الشديد حيال توعكها. بعدئذ أطرى ثوبها عندما جلسا.‏

ـ لقد انزعجت من رؤية أوليا البارحة ـ قالت ـ في البداية ساورني شعور رهيب، ولكنني الآن أحسدها. إنها صخرة صمّاء يصعب تحطيمها، ولن يكون بوسع أحد أن يزحزحها من مكانها أبداً. ولكن يا فولوديا، أما كان أمامها من مخرج آخر تسلكه؟ أيجب على المرء حقاً أن يئد نفسه حياً ليحلّ لغز الحياة؟ أتعرف؟ إنه موت بحد ذاته وليس حياة.‏

ظهر تعبير لطيف على وجه فولوديا لدى ذكر أوليا.‏

ـ أنت شخص ذكي يا فولوديا ـ قالت صوفيا لفوفنا ـ علّمني كيف أفعل ما فعلته هي تماماً. إنني بالطبع لست مؤمنة، وليس بمقدوري أن أدخل ديراً لكن لابد أن يكون هناك ما يماثل هذا الخيار قيمةً... إن حياتي ليست سهلة ـ تابعت بعد لحظة صمت ـ أخبرني... قل لي شيئاً مقنعاً، كلمة واحدة تفي بالغرض.‏

ـ كلمة واحدة؟ هاك إذاً: تارارا ابومبيا.‏

ـ لماذا تحتقرني يا فولوديا. سألته باندفاع ـ فأنت تستخدم هذه اللغة ـ اعذرني ـ الساذجة والعابثة عندما تتحدث إلي بالذات، وهي ليست من النوع الذي يستخدمه الناس مع أصدقائهم أو مع نساء محترمات. إنك ناجح جداً كإنسان متعلّم، فأنت تحب العلوم، ولكنك لا تتكلم معي أبداً عن العلوم؟ لماذا؟ ألست أهلاً لذلك؟‏

تضايق فولوديا الصغير فغضن وجهه وقال: لماذا تريدين أن تتكلمي عن العلوم فجأة؟ لعلّك تريدين الدخول بنقاش عن البنية؟ أو ربما عن سمك الحفش مع الفجل الحرّيف؟‏

ـ جيد. حسناً، إنني امرأة تافهة سيئة مجرّدة من القيم، وغبية... ارتكبت مئات المئات من الأخطاء. إنني مريضة نفسياً وفاسقة وأستحق الاحتقار على هذا النحو، ولكن انظر يا فولوديا، أنت تكبرني بعشر سنوات وزوجي يكبرني بثلاثين سنة، إنني ترعرعت أمام ناظريك، ولو أردت، لكان في مقدورك أن تجعل مني ما تشاء حتى ملاكاً، ولكنك ـ وهنا ارتجف صوتها ـ عاملتني على نحو مريع، وتزوجني يا غيتش عندما كان مسناً أصلاً وأنت...‏

ـ هذا يكفي، هذا يكفي ـ قال فولوديا وهو يقترب في جلوسه منها ويقبّل كلتا يديها ـ لندع شوبنهاور وأمثاله لفلسفتهم وإثبات ما يريدون إثباته، أما نحن فدعينا نقبل هاتين اليدين الصغيرتين.‏

ـ أنت تحتقرني بالفعل، ليتك تعرف فقط كم يعذبني هذا! قالت بتلكؤ وهي تعرف سلفاً أنه لن يصدقها.‏

ـ ليتك تعرف فقط كم أريد أن أكون امرأة أخرى، وأن أبدأ حياة جديدة، إنني أفكر في هذا ببهجة غامرة.‏

ـ وبالفعل فقد ذرفت قليلاً من دموع الفرح عندما قالت ذلك ـ لأن تكون إنساناً طيباً شريفاً طاهراً، ألاّ تكذب، وأن يكون لك هدف في الحياة!‏

ـ هيا، هيا، هيا لا تبدئي بالتظاهر، فأنا لا أحب هذا. قال فولوديا واتخذ وجهه تعبيراً متقلباً ـ يا إلهي، لكأنك على خشبة المسرح، دعينا نتصرف كأناس حقيقيين.‏

ولكي لا يغضب ويرحل، طفقت تجد الأعذار لنفسها، وأجبرت نفسها على الابتسام بغية إرضائه، وعاودت الحديث عن أوليا وكيف تمنّت هي أيضاً أن تحلّ مشكلات حياتها، وأن تصبح إنساناً بحق.‏

ـ تارا.. را.. مبيا ـ غنى هامساً ـ تا...را...بومبيا.‏

وفجأة طوّق خصرها، فوضعت يديها على كتفيه، جاهلة ما تفعل. ولدقيقة ظلت تنظر بنشوة كما لو كانت مخدّرة، إلى وجهه الذكي والساخر، وإلى جبينه وعينيه ولحيته الرائعة.‏

ـ لقد عرفت لمدّة طويلة أني أحبك ـ اعترفت واحمرّت خجلاً وألماً، بل وشعرت بأن شفتيها التوتا بتشنج من أثر الخجل ـ إني أحبك حقاً، فلماذا تعذبني؟. أغمضت عينيها وقبّلته بشغف في شفتيه، ولعلّه مضى من الوقت دقيقة كاملة قبل أن تستطيع حمل نفسها على إنهاء القبلة، رغم أنها كانت تدرك أن هذا لا يجوز البتة، وأنه قد يدينها هو نفسه، أو أن الخدم قد يدخلون إلى الغرفة...‏

ـ آه، كم تعذبنيّ ـ رددت.‏

بعد مضي نصف ساعة، وكان قد حقق ما أراد، جلس في غرفة الطعام وتناول وجبة خفيفة، بينما ركعت هي بجانبه وراحت تحملق في وجهه بشراهة . قال لها إنها تبدو مثل كلب أليف ينتظر من صاحبه أن يرمي لـه ببقية من لحم، ثم أجلسها على إحدى ركبتيه وغنّى وهو يؤرجحها: تارا... رابومبيا!‏

عندما كان يهمّ بالمغادرة، سألته بصوت متأثر: متى؟ اليوم؟ أين؟ وأطبقت كفّيها على فمه كما لو كانت تسعى إلى سحب الجواب بيديها.‏

ـ سيكون صعباً اليوم ـ قال بعد أن فكّر ملياً ـ ولكن ربما غداً. ثم افترقا.‏

قبل العشاء، ذهبت صوفيا لفوفنا إلى الدير لرؤية أوليا، ولكنّهم أخبروها هناك بأن أوليا ذهبت لتقرأ من سفر المزامير على روح امرأة توفيت. خرجت صوفيا من الدير وتوجهت إلى بيت أبيها، إلا أنها لم تلقه في المنزل أيضاً. بعدئذ غيّرت العربة وراحت تتجول في الشوارع والطرق الفرعية دون أيّما هدف، واستمرّت على حالتها تلك حتى حلول المساء، ولسبب ما، تذكرت خالتها الدامعة العينين، العاجزة عن إيجاد الطمأنينة أبداً.‏

في تلك الليلة، خرجوا مرّة أخرى في الترويكا، واستمعوا إلى غناء الغجر في مطعم خارج البلدة، وعندما عبروا من أمام الدير ثانية، تذكرت صوفيا أوليا، فأرعبها التفكير بأن فتيات ونساء طبقتها الاجتماعية لا يجدن مخرجاً سوى ركوب الترويكا دوماً، والكذب، أو الالتحاق بالدير وإماتة الجسد.‏

في اليوم التالي كان ثمّة لقاء آخر،وعادت صوفيا لفوفنا إلى التجوال وحدها في عربة مستأجرة حول المدينة، وتذكرت خالتها من جديد.‏

انفصل فولوديا الصغير عن صوفيا لفوفنا بعد أسبوع، ثم عادت الحياة إلى مجاريها كما كانت من قبل، مملة، حزينة، بل وحتى مؤلمة في بعض الأحيان. كان الكولونيل يلعب البلياردو أو البوكيت مع فولوديا الصغير لساعات، وكانت ريتا تروي النكات بطريقتها الذابلة السمجة، بينما كانت صوفيا لفوفنا تتجوّل في عربة مستأجرة باستمرار وتتضرع إلى زوجها كي يأخذها للتنزّه بالترويكا.‏

أضجرت صوفيا لفوفنا أوليا، إذ كانت تزورها في الدير كل يوم تقريباً، فتشكو لها عذابها الذي لا طاقة لها على احتمالـه، وتبكي وتشعر في الوقت نفسه أن ثمّة شيئاً نجساً، مثيراً للشفقة وخسيساً قد دخل معها إلى صومعة الدير. وكانت أوليا تقول لها آلياً وبلهجة امرئ يتلو درساً محفوظاً، بان لا شيء من هذا لـه أدنى قيمة، وبأن كل هذا سيمضي، وأنّ الله سوف يسامحها

الشعراء:

#علاء_سالم إبراهيم أبو زيد إبراهيم اليازجي إبراهيم جمال إبراهيم طوقان إبراهيم عمر الأمين إبراهيم عيسى إبراهيم محمد إبراهيم إبراهيم ناجي ابن الجوزي ابن الخياط ابن الدهان ابن الرومي إبن الفارض ابن الفارض ابن القيم ابن المعتز ابن النبيه المصري ابن حزم الأندلسي إبن خلدون ابن خلدون ابن رزيق البغدادي ابن زيدون ابن سهيل الأندلسي ابن عبد ربه ابن عربي ابن نباتة المصري أبو إسحاق الألبيري ابو الاسود الدؤلي أبو البقاء الرندي أبو العتاهية أبو العلاء المعري أبو القاسم الشابي أبو تمام أبو صخر الهذلي أبو فراس الحمداني أبو نواس أبيات أبيات، علاء سالم إحسان البني أحمد الصافي النجفي أحمد المنعي أحمد بخيت أحمد رامي أحمد شوقي أحمد فتحي أحمد مطر أدب روسي مترجم أدب عربي إدريس جماع ادريس جماع أدونيس أسعد الغريري أشعار الثورة العربية أغاني أطفال الأخطل الصغير الإشبيلي الأصمعي الأعشى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام الإمام الشافعي الإمام الشوكاني الإمام علي بن أبي طالب الأمير عبد الله الفيصل الباخرزي البحتري البرعي الثورة السورية الحطيئة الحلاج الخبز أرزي الرافعي الرصافي السمؤال السهروردي الشاب الظريف الشاعر القروي الشريف الرضي العباس بن الأحنف القشيري القيرواني المتنبي المجاهد المصري النابلسي الناشئ الأكبر النيسابوري الهادي آدم الهبل الواواء الدمشقي أم حمادة الهمذانية أماني العربي أمرؤ القيس امرؤ القيس أمل الشيخ أمل دنقل أمين ناصر الدين أنور سلمان أنور سليمان إيليا أبو ماضي بدر شاكر السياب بدوي الجبل بشار بن برد بلبل الغرام الحاجري بهاء الدين زهير تحميل كتب تميم البرغوثي جبران خليل جبران جرير جعفر ماجد جلال الدين الرومي جليلة رضا جميل الساعدي جميل بثينة حافظ إبراهيم حامد زيد حذيفة العرجي حسان بن ثابت حسن شحاتة حسن مرواني حكم وأقوال مأثورة حمزة شحاتة حنين عمر خالد الحصيني خليل فواز د. جمال مرسي د. مانع سعيد العتيبة د. مصطفى محمود دلال البارود دواوين كاملة ديك الجن رابعة العدوية رباعيات رثاء رسل راكان رشيد الخوري روائع روائع نثرية روائع٢ روضة الحاج رياض بن يوسف زكي الياسري زكي مبارك زهير السيلاوي سعاد الصباح سعيد يعقوب شاعر شؤون عربية وإسلامية شعر إسلامي شعر الثورة المصرية شعر الحب والغزل شعر الحكمة شعر الغزل الصريح شعر روسي مترجم شعر سياسي شعر عن الأم شعر مترجم شعراء شكسبير صالح الشرنوبي صباح الحكيم صبحي ياسين صريع الغواني صفوان التجيبي صفي الدين الحلي طرفة بن العبد عازر نجار عباس العقاد عبد الرازق عبد الواحد عبد الرحمن العشماوي عبد الرحمن يوسف عبد السلام رزيق عبد العزيز المذهل عبد العزيز جويدة عبد الغفار الأخرس عبد الله البردوني عبد الله الشبراوي عبد الناصر الشيخ عبد الواسع السقاف عبدالرازق عبدالواحد علاء جانب علاء سالم علاء_سالم علي الجارم علي بن الجهم علي بن هارون المنجم علي صالح القرعاوي علي فريد علي محمود طه عمر أبو ريشة عمر الفرا عُمَر الفرا عمر بن أبي ربيعة عمر طش عنترة بن شداد عيسى جرابا غادة السمان غازي القصيبي غزل فاحش فاروق النمر فاروق جويدة فاروق شوشة فالح بن طفلة فتى الشاطئ فهد العسكر فواز اللعبون قصائد بصوت فيروز قصائد مسموعة قصائد مغناة بصوت كاظم الساهر قيس بن الملوح قيس بن ذريح قيس لبنى كامل الشناوي كريم العراقي كريم معتوق كعب بن زهير لسان الدين الخطيب ماجد عبدالله مانع سعيد العتيبة محمد البياسي محمد الشهاوي محمد المقرن محمد جانب محمد جمال حجازي محمد جنيدي محمد شكر محمد شهاب الدين العربي محمد علوان محمد محمود الزبيري محمود حسن إسماعيل محمود درويش محمود سامي البارودي محمود غنيم مختارات مميزة مريد البرغوثي مصطفى حامد مصطفى صادق الرافعي مصطفى قاسم عباس مصطفى لطفي المنفلوطي مصعب السحيباني مظفر النواب معن بن أوس مقالات سياسية مـقـالاتــي مقولات من نوادر العرب من هنا وهناك مناسبات منية بن صلاح ميسون السويدان نازك الملائكة نجم الحصيني نجيب سرور نزار قباني نزار قباني - شعر سياسي نزار قباني ٢ نشوى جرار نور سليمان هاشم الرفاعي هالا محمود هشام الجخ وئام الليثي وداد العاقل وشاح إشبيليا ولادة بنت المستكفي ويليام شكسبير ياسر الأقرع يحيى السماوي يحيى توفيق حسن يزيد بن معاوية