نزار قباني |
لا فضل لعربي على عربي إلا بالبلوى ..
فمساحةُ زنزانتنا واحدةْ ..
وموسيقي جنائزنا واحدةْ ..
وتفاصيل موتنا واحدةْ ..
في المطارات الأوربية
لا يحتاج العربي إلي تقديم جواز سفرهْ ..
يكفيه أن يقدم صورة بالأبيض والأسودْ ..
لوجه الممطوطْ ..
وعينيه الجاحظتينْ ..
وذقنه التي لم تحلقْ ..
منذُ اختراع شفرات (جيليت) ..
حتى يعرفوه ..
تعبيرُ الخليج الثائر
والمحيط الهادر ..
تعبيرانِ عجوزان ..
ماتا بالسكتة القلبية ..
كلما أردت أن أستريح
علي سجادة العُروبة
سحبوها من تحتي ..
كلما حاولتُ أن أرضع من ثدي العُروبة ..
أجتمع الحكماءُ العرب ..
وقرروا فطامي ..
كلما انحنيتُ لأشرب من نهر العُروبة
وجدتهُ مسموماً (بالديتول) ..
كلما دخلتُ إلي المكتبة
لأشتري كتاب :
(المفاتيحُ السحرية ..للفتوح العربية)
وجدتهُ مزوراً ..
قبل حرب الخليج
كنا نلبس ثوباً وحدوياً مرقعاً ..
بعد حرب الخليج
رجعنا عُراه كما خلقنا الله ..
أنا لا أعتبرُ المنفي عملاً تراجيدياً
بل أعتبرهُ مسرحاً تجريباً ..
يحررني من ديكتاتورية النص ..
ورتابة السيناريو ..
وغرابه ملابسي الفلولكلورية ..
الشعر العربي العظيم
كان دائماً شعراً مهاجراً ..أو مهجراً
ولم يكن شعراً مقيماً
والإبداعُ العربي الأصيل
لم يحدث في رحم الوطن ..
وإنما حدث خارجه ..
إن قائمة المنفيين من الشعراء العرب
طويلةٌ جداً ..
ابتداءً من نقيب المنفيين أبي الطيب المتنبي
حتى أدونيس ..ومحمود درويش ..
وسعدي يوسف ..ومظفر النواب ..
ليس ضرورياً أن نعيش في فندق الوطن
حتى نكتب عنه شعراً جميلاً ..
الوطنُ هو تشكيلٌ ذهني
وعلاقةُ عشقٍ سرية
يمكن أن تحدث ..
في أي فندقٍ في العالم ..
الالتصاقُ الطويلُ بالوطن ..
كالالتصاق الطويل بالمرأة ..
هو كارثةٌ للشعر ..
المنفي هو كحل عينيكِ السوداوين
هو التعويضُ العادل
لتأسيس وطنٍ بديل ..
كل يومٍ يهربُ الوطنُ من الوطن
حتى صار لعرب (الدياسبُورا)
دولةٌ ..ولغةٌ ..ونشيدٌ رسمي
وأصبح بإمكانهم
أن يحصلوا على مقعدٍِ دائم
في هيئة الأمم المتحدة ..
هل في مقاهي لندن ؟
طاولةٌ مفردةٌ ..وقهوةٌ جيدةٌ ..
تغسلُ عن قلبي التعب ..
أبحثُ في الصباح عن جريدةٍ ..
صينية ..كورية ..هندية ..
أرتاحُ فيها من فصاحات العرب ..
وعنتريات العرب ..
تغيرت خرائطُ النساء في دفاتري ..
تغيرت قرطبة ..
تغيرت غرناطة ..
فلا نساءُ الشام يبتسمن لي ..
ولا جميلاتُ حلب ..
إذا تغزلتُ بحسن امرأةٍ
تأكلني الأسماك في بحر العرب !!