على دفترْ .. سأجمعُ كلّ تاريخي على دفترْ ..
سأرضعُ كلّ فاصلةٍ حليبَ الكلمةِ الأشقرْ..
سأكتبُ لا يهمُّ لمن سأكتبُ هذه الأسطرْ..
فحسبي أن أبوحَ هنا لوجهِ البوحِ لا أكثرْ ..
حـروفٌ لا مبـاليةٌ أبعثرها على دفتـرْ..
بلا أمـلٍ بأن تبقى بلا أمـلٍ بأن تُنشـرْ..
لعـلّ الريح تحملهـا فتزرع في تنقلهـا ..
هنا حرجاً من الزعتر هنا كرماً هنا بيدرْ ..
هنا شمسـاً و صيفـاً رائعـاً أخضـرْ ..
حروف سوف أفرطها كقلب الخوخة الأحمرْ
لكلّ سـجينةٍ تحيا معي في سجني الأكبرْ ..
حروفٌ سوف أغرزها بلحمِ حياتنا خنجرْ ..
لتكسرَ في تمرّدهـا جليداً كان لا يُكسرْ ..
لتخلعَ قفل تابوتٍ أُعِـدَّ لنـا لكي نُقبرْ ..
كتـاباتٍ أقـدّمها لأيّ مهجةٍ تَشـعرْ ..
سيسعدني إذا بقيتْ غداً مجهولةَ المصدرْ ..
- 2 –
أنـا أنثـى .. أنـا أنثـى ..
نـهار أتيت للدنيـا وجدتُ قرار إعدامي ..
ولم أرَ بابَ محكمتي و لم أرَ وجهَ حكّامي ..
- 3 –
عقاربُ هذه الساعة كحوتٍ أسودَ الشفتين يبلعني ..
عقاربها كثعبانٍ على الحائط كمقصلةٍ كمشنقةٍ كسكّينٍ تمزّقني
كلصٍّ مسرع الخطوات يتبعني و يتبعني ..
لماذا لا أحطّمها ؟ وكلّ دقيقةٍ فيها تحطّمني
أنا امرأةٌ بداخلها توقّفَ نابضُ الزّمنِ ..
فلا نوّارَ أعرفهُ .. ولا نيسانَ يعرفني ..
- 4 –
أنا بمحارتي السوداء .. ضوءُ الشمسِ يوجعني
وسـاعةُ بيتنا البلهاء .. تعلكنـي و تبصقنـي
مجــلاتي مبعثـرةٌ ..وموسـيقاي تضجرني
مع الموت أعيش أنا .. مع الأطلال و الدّمـنِ
جميـعُ أقاربي موتى .. بلا قبـرٍ و لا كفنِ
أبوح لمن ولا أحداً ..مِنَ الأمواتِ يفهمني ؟
أثور أنا على قدري .. على صدئي على عفني
و بيتٍ كلُّ مَنْ فيـه .. يعادينـي و يكرهني
أدقُّ بقبضتي الأبواب ..و الأبوابُ ترفضنـي
بظفري أحفر الجدران .. أجلدها و تجلـدني
أنا في منزل الأموات فمن من قبضة الموتى يحررني ؟!
- 5 –
لمـــن صــدري أنـا يكبــرْ .. ؟!
لمـن كرزاته دارت ؟.. لمـن تفاحه أزهرْ ؟!
لمن صحنانِ صينيّان ..من صدفٍ ومن جوهرْ ؟
لمن قدحان من ذهبٍ .. و ليس هناك من يسكرْ
لمـن شـفةٌ مناديـةٌ ..تجمّدَ فوقها السّكـرْ ؟
أللشـيطان للديـدان .. للجـدران لا تُقهرْ ؟
أربّيها وضوءُ الشمسِ أسقيها سنابلَ شعري الأشقرْ
- 6 –
خلوتُ اليوم ساعاتٍ إلى جسدي .. أفكر في قضاياهُ
أليسَ له هو الثاني قضاياهُ ؟ .. وجنّتهُ .. و حماهُ ..؟
لقـد أهملتـهُ زمنــاً .. و لـم أعبـأ بشـكواهُ
نظرتُ إليهِ في شغفٍ .. نظرتُ إليهِ من أحلى زواياهُ
لمسـتُ قبابـهُ البيضـاء و غابتـهُ ومرعـــاهُ
أنـا لـوني حليبـيٌّ كأنّ الفجرَ قطّـرهُ و صفـاهُ
أسـفتُ لأنّه جسدي .. أسفتُ على ملاستهِ
و ثرتُ على مصمّمهِ .. و عاجنـهِ و ناحتـهِ
رثيتُ له لهـذا الوحش .. يأكلُ من وسـادتهِ
لهــذا الطّفــلِ ليسَ تنــام عينـــاهُ
نزعتُ غلالتي عنّي رأيتُ الظلّ يخرجُ من مراياهُ
رأيتُ النّهـدَ كالعصفورِ لم يتعـبْ جناحـاهُ
تحـرّرَ مـن قطيفتـهِ و مـزّقَ عنـه تفتـاهُ
حزنتُ أنا لمرآهُ .. لماذا الله كوّرهُ و دوّرهُ و سوّاهُ ؟!
لمــاذا الله أشــقاني بفتنتــه و أشــقاهُ ؟
و علّقـهُ بأعلى الصّـدرِ جرحاً لسـتُ أنسـاهُ
- 7 –
لمـاذا يستبدُّ أبي ؟ .. و يرهقني بسلطتهِ ؟!
و ينظرُ لي كآنيـةٍ ..كسطرٍ في جريدتـهِ
و يحـرصُ أن أظلَّ لهُ ..كأني بعض ثروتهِ
و أن أبقـى بجانبـهِ .. ككرسـيٍّ بحجرتهِ
أيكفـي أنني ابنتهُ .. وأني من سـلالتهِ ؟
أيطعمنـي أبي خبزاً .. أيغمـرني بنعمتهِ ؟
أكفرتُ أنا بمال أبي ؟.. بلؤلؤهِ .. بفضّتهِ ؟
أبي لم ينتبـه يومـاً .. إلى جسدي و ثورتهِ
أبي رجـل أنانـيٌّ .. مريضٌ في محبّتــهِ
مريضٌ في تعصّبـهِ .. مريضٌ في تعنّتــهِ
يثورُ إن رأى صـدري تمـادى في استدارتهِ
يثورُ إن رأى رجـلاً .. يقرب من حديقتهِ
أبي لـن يمنعَ التّفاح .. عن إكمالِ دورتـهِ
سيأتي ألفَ عصفورٍ .. ليسرقَ من حديقتهِ
- 8 –
على كرّاستي الزرقـاء أستلقي بحريّـه
وأبسط فوقها ساقي في فرحٍ و عفويّـه
أمشّطُ فوقها شعري .. و أرمي كل أثوابي الحريريّه
أنـامُ أفيـقُ عاريـةً .. أسـيرُ أسـيرُ حافيـةً
علــى صفحــات أوراقــي السـماويّه
على كرّاسـتي الزرقاء .. أسـترخي على كيفي
و أهربُ من أفاعي الجنس و الإرهابِ و الخوفِ
و أصرخُ ملءَ حنجرتي .. أنا امرأةٌ .. أنا امرأةٌ
أنا إنسانةٌ حيَّـه .. أيا مدنَ التّوابيتِ الرخاميّه
على كراستي الزرقاء تسقطُ عنّي أقنعتي الحضاريّه
ولا يبقى سوى نهدي تكوّمَ فوقَ أغطيتي كشمسٍ استوائيّه
ولا يبقى سوى جسدي يعبّرُ عن مشاعرهِ بلهجتهِ البدائيّه
و لا يبقى .. و لايبقى .. سـوى الأنثـى الحقيقيّـه
- 9 –
أحبُّ طيورَ تشرينِ .. تسـافرُ حيثما شـاءت
و تأخذُ في حقائبها بقايا الحقلِ من لوزٍ ومن تينِ
أنا أيضاً أحبُّ أكونَ .. مثـل طيورِ تشـرينِ
أحــبُّ أضيــعَ .. مثـل طيورِ تشـرينِ
فحلوٌ أن يضيعَ المـرءُ .. بيـنَ الحينِ و الحيـنِ
أريدُ البحثَ عن وطن .. جديـدٍ غيرَ مسكونِ
وربٍّ لا يطــاردني .. و أرضٍ لا تعـاديني
أريدُ أفرُّ من جلـدي .. ومن صوتي ومن لغتي
وأشــردُ مثــل رائحــة البســاتينِ
أريدُ أفـرُّ من ظلّـي .. و أهرب من عناويني
أريدُ أفـرُّ من شـرقِ الخرافـة و الثعـابينِ
مـن الخلفاء و الأمراء .. مـن كل السلاطينِ
أريــدُ أحــبُّ ..مثـل طيور تشـرينِ
أيــا شــرقَ المشــانقِ و السـكاكينِ
- 10 –
صـباحَ اليومِ فاجأني .. دليـلُ أنوثتي الأّوّلْ
كتمتُ تمزّقي ورحتُ .. أرقبُ روعةَ الجّدولْ
وأتبـعُ موجـهُ الذهبيّ .. أتبعـهُ ولا أسألْ
هنـا أحجارُ ياقوتٍ .. وكنزُ لآلـئٍٍ مُهملْ
هنـا نافورة جذلـى .. هنا جسرٌ من المخملْ
هنا سفنٌ من التوليب .. ترجو الأجملَ الأجملْ
هنـا حبرٌ بغير يـدٍ .. هنا جـرحٌ ولا مقتلْ
أأخجلُ منه هل بحـرٌ .. بعـزّةِ موجهِ يخجلْ ؟
أنا للخصبِ مصدرهُ .. أنا يـدهُ .. أنا المغزلْ
- 11 –
أسائلُ دائماً نفسي .. لماذا لا يكونُ الحبّ في الدنيا
لكلّ الناس .. كلّ الناس .. مثـل أشـعة الفجـرِ
لمـاذا لا يكون الحـبّ مثـل الخبـزِ و الخمـرِ
ومثــــلَ المـــــاءِ في النّهــــرِ
و مثلَ الغيمِ و الأمطار.. و الأعشـاب و الزهـرِ
أليس الحبّ للإنسان .. عمـراً داخل العمـرِ ؟
لمـاذا لا يكون الحـبّ في بلـدي طبيعيـّاً ؟
كأنّـه زهـرةٌ بيضاء طالعـةٌ من الصخـرِ
طبيعيّاً كلقيا الثغر بالثغر .. ومنساباً كما شعري على ظهري
لمـاذا لا يحـبّ الناس في ليـنٍ و في يسـرِ ؟
كما الأسـماك في البحرِ .. كما الأقمار في أفلاكها تجـري
لماذا لا يكون الحبّ في بلدي ضروريّاً كديوانٍ من الشعرِ ؟!
- 12 –
أفكّر أيّنا أسعدْ .. أنا أم ذلك الممدود سلطاناً على المقعدْ
سعيداً تحت فروتهِ كربٍّ مطلقٍ مفردْ
أفكّرُ أيّنا حرٌّ و من منّا طليق اليـدْ
أنـا أم ذلك الحيـوان .. يلحسُ فـروه الأجعــدْ
أمامي كائنٌ حرٌّ يكادُ للطفهِ يُعبـدْ
لهذا القطّ عالمهُ ، له طردٌ ، له مسندْ
له في السطحِ مملكةٌ و راياتٌ له تُعقدْ
له حريّةٌ و أنـا أعيشُ بقمقمٍ موصدْ
- 13 –
أنا نهـداي في صـدري كعصفورين قد ماتا من الحرِّ
كقدّيسـين شــرقيّين .. متّهميــن بالكفــرِ
كم اضطُّهدا و كم جُلدا .. وكم رقـدا على الحجـرِ
وكم رفضـا مصـيرهما .. وكم ثـارا على القهـرِ
وكم قطعــا لجامهمـا .. وكم هربـا من القبـرِ
متى سـيفكُّ قيـدهما ؟ .. متـى يـاليتنـي أدري
- 14 –
نزلـتُ إلى حديقتنـا .. أزورُ ربيعهـا الرّاجعْ
عجنتُ ترابها بيدي .. حضنتُ حشيشها الطالعْ
رأيتُ شجيرةَ الدّراق .. تلبسُ ثوبهـا الفاقـعْ
رأيتُ الطّيـرَ محتفـلاً .. بعودة طيره الساجعْ
رأيتُ المقعـدَ الخشبيّ .. مثـلَ الناسكِ الراكعْ
سـقطتُ عليه باكيةً .. كأنّي مركبٌ ضائـعْ
أحتى الأرض يا ربّي تعبّر عن مشاعرها بشكل بارع بارع
أحتّى الأرض يا ربّي لها يومٌ تحبُّ به تضمُّ حبيبها الراجع
رفوف العشب من حولي لها سبب لها دافع
فليس الزنبق الفارع و ليس الحقل ليس النحل ليس الجدول النابع
سوى تعبير هذي الأرض غير حديثها البارع
أحـسّ بداخلي بعثاً يمزّق قشرتي عني و يسقي جذري الجائع
و يدفعني لأن أعدو مع الأطفال في الشارع
أريد أريد أن أعطي كأيّ زهرة في الروض تفتّح جفنها الدامع
كأية نحلة في الحقل تمنح شهدها النافع
أريد أريد أن أحيا بكل خلية مني مفاتن هذه الدنيا بمخمل ليلها الواسع
و برد شتائها اللاذع
أريد .. أريد أن أحيا .. بكل حرارة الواقع .. بكل حماقة الواقع
- 15 –
أبــي صـنفٌ مــن البشــرِ
مزيجٌ من غباءِ التّرك و من عصبيّة التّترِ
أبي أثر من الآثار .. تابوتٌ من الحجرِ
تهرّأ كل ما فيهِ ..كبابِ كنيسـةٍ نخرِ
كهارون الرشيد أبي ، جواريه ، مواليه ، تمطّيه على تخت من الطّررِ
و نحن هنا .. ضحاياه .. سـباياه .. مماسـح قصـره القــذرِ
- 16 –
أغطُّ الحرفَ بالجرحِ و أكتبُ فـوقَ جدرانٍ من الكبريت و الملحِ
و أبصقُ فوقَ أوثانٍ عواطفها من الملحِ و أعينها و منطقها من الملحِ
- 17 –
لماذا في مدينتنـا نعيش الحـبَّ تهريبـاً و تزويـرا
و نسرق من شقوقِ الباب موعدنا و نستعطي الرسائل و المشاويرا
لماذا في مدينتنا ..؟ يصيدون العواطف و العصافيرا
لماذا نحن قصديرٌ و ما يبقى من الإنسان حين يصير قصديرا ؟!
لماذا نحن أرضيّون ..تحتيّون .. نخشى الشمس و النورا
لماذا أهل بلدتنا يمـزّقهم تناقضهم
ففي ساعات يقظتهم يسبّون الضفائر و التنانيرا
و حين الليل يطويهم يضمّون التصاويرا
- 18 –
يعود أخي من الماخور عند الفجر سكرانا
يعود كأنّه السلطان، من سـمّاه سلطانا
و يبقى في عيون الأهل أجملنا و أغـلانا
و يبقى في ثياب العهر .. أطهرنا و أنقانا
يعود أخي من الماخور مثل الدّيك نشوانا
فسبحان الذي سوّاه من ضوءٍ و من فحمٍ رخيصٍ نحن سوّانا
وسـبحان الذي يمحـو خطـاياه ولا يمحـو خطـايانا
- 19 –
خرجتُ اليوم للشّرفة على الشّباك جارتنا المسيحيّة تحيّيني
فرحتُ لأنّه إنسانٌ يحيّيني
لأنّ يداً صباحيّة .. يداً كمياهِ تشرينِ
تلــوّحُ لي تنــاديني
أيا ربّي متى نُشفى تُرى من عقدةِ الدّينِ ؟
أليسَ الدّين كلّ الدّين إنساناً يحيّيني
و يفتحُ لي ذراعيهِ و يحملُ غصنَ زيتونِ
- 20 –
تُخيفُ أبي مراهقتي .. يدقُّ لها طبول الذّعرِ و الخطرِ
يقـاومها .. يقـاوم رغوة الخلجان يلعنُ جرأةَ المطرِ
يقـاوم دونمـا جدوى مـرور النّسـغ في الزّهـرِ
أبي يشـقى إذا سـألت رياحُ الصّيفِ عن شـعري
و يشـقى إن رأى نهــدايَ يرتفعـانِ في كِبـرِ
و يغتسـلان كالأطفـال تحـتَ أشـعّة القمـرِ
فمـا ذنبي و ذنبهمـا .. همـا منّي .. همـا قدري
- 21 –
سـماءُ مدينتي تمطر .. و نفسي مثلها تمطرْ
و تاريخي معي طفلٌ نحيل الوجه لا يبصـرْ
أنا حـزني رماديٌّ كهذا الشـّارع المقفـرْ
أنا نوعٌ من الصـبّير لايعطـي و لا يثمـرْ
حيـاتي مركبٌ ثمل .. تحطّـم قبل أن يبحرْ
و أيّامي مكـرّرةٌ كصوت السـاعة المضجرْ
و كيف أنوثتي ماتت أنا ما عدتُ أستفكرْ
فلا صيفي أنا صيفٌ و لا زهري أنا يزهرْ
بمن أهتمُّ ؟ هل شيءٌ بنفسي بعدُ ما دُمّرْ ؟
أبالعفن الذي حولي ..أم القيم التي أنكرْ
حياتي كلّها عبثٌ فلا خبرٌ أعيشُ له و لا مخبرْ
للاأحـدٍ أعيشُ أنا .. و لا لاشيءَ أستنظرْ
- 22 –
متـى يـأتي تـُرى بطلـي ؟!
لقد خبّأتُ في صدري له زوجاً من الحجلِ
وقد خبّأتُ في ثغري .. له كوزاً من العسلِ
متى يأتي على فرسٍ .. له مجدولة الخصـلِ
ليخطفنـي .. ليكسـر بـاب معتقلـي
منذ طفولتي و أنا أمدُّ على شبابيكي حبال الشّوقِ و الأملِ
و أجـدلُ شعري الذّهبي كي يصـعد على خصلاته بطلي
- 23 –
سأكتبُ عن صديقاتي .. فقصّة كلّ واحدة
أرى فيها أرى ذاتي .. و مأساةٍ كمأساتي
ســأكتـبُ عــن صــديقـاتي ..
عن السّجن الذي يمتصّ أعمار السجيناتِ
عن الزّمن الذي أكلته أعمدة المجـلاتِ
عن الأبوابِ لا تفتحْ .. عن الرّغبات .. و هي بمهدها تُذبحْ
عن الكلمات تحت حريرها تنبحْ
عن الزنزانـة الكبـرى .. و عن جدرانـها السّـودِ
و عن آلافِ الشهيدات .. دُفِنَّ بغير أسماءٍ بمقبرةِ التقاليدِ
صديقاتي .. دمىً ملفوفة بالقطن داخل متحفٍ مغلـق
نقـودٌ صـكّها التـاريخ ولا تهـدى ولا تنفــق
مجــاميع مـن الأسـماك في أحواضـها تخنــق
و أوعيــة مـن البلّلـور مـات فراشـها الأزرق
بلا خـوفٍ سـأكتب عـن صـديقاتي
عن الأغلال داميـة بأقـدام الجميـلاتِ
عن الهذيان و الغثيان عن ليـل الفراغـاتِ
عـن الأشــواق تدفــن فــي المخــدّاتِ
عـن الدّوران فـي اللاشيء .. عن موت الهنيهـاتِ
صديقاتي .. رهائنُ تشترى و تباع في سوقِ الخرافاتِ
سـبايا فـي حـريم الشـرق موتى غـير أمـواتِ
يعشـنَ يمتنَ مثـل الفطـر في جـوفِ الزّجاجـاتِ
صديقـاتي .. طيورٌ في مغائرها تمـوتُ بغير أصـواتِ
- 24 –
بـــلادي تـرفـــض الحبّـــــا
تطاردهُ كأيّ مخدّرٍ خطرٍ .. تسـدُّ أمامه الدّربا
تطارده .. تطارد ذاك الطّفل الرّقيق الحالم العذبا
تقـصّ لـه جناحيـهِ و تملأ قلبـه رعبــا
بلادي تقتـل الربّ الذي أهـدى لها الخصبـا
و حـوّل صخرها ذهباً و غطّى أرضها عشـبا
و أعطـاها كواكبها وأجـرى ماءها العذبـا
بلادي لم يزرها الـربّ منذ اغتالـت الربّـا
- 25 –
كفى يا شـمس تمّوزٍ غبار الكلس يعمينـا
فمنذ البدء غير الكلس لم تشـرب أراضينا
ومنذ البدء غير الدّمع لم تسـكب مآقينـا
ومنذ البدء نسـتعطي سـماءً ليس تعطينا
كفانا نلعق الأحجار و الإسفلت و الطينـا
كفـانا يا سموات من القصـدير تكوينـا
جلـود وجوهنا يبست تشقّق لحم أيدينـا
لماذا ترفض الأمطار أن تسـقي روابينـا؟
لمـاذا تصبح الأزهار .. فحماً في أوانينـا
لأنّا قـد قتلنا العطر .. واغتلنا الرّياحينـا
وأغمدنا بصدر الحبّ أغمدنا السـكاكينا
لأنّ الأرض تشـبهنا مناخاتٍ و تكوينـا
لأنَّ العقم كلّ العقم لا في الأرض بل فينا
- 26 –
يروّعني شحوب شقيقتي الكبرى .. هي الأخرى
تعـاني ما أعانيه .. تعيش سـاعة الصّـفرا
تعاني عقدةً سـوداء تعصـر قلبها عصـرا
قطار الحسن مرَّ بها ولم يترك سوى الذكرى
ولم يترك من النّهـدين إلا الّليف و القشـرا
لقد بدأت سفينتها تغوص و تلمس القعـرا
أراقبها و قـد جلست بركنٍ تصلح الشّعرا
تصفصفه ، تخرّبه ، و ترسـل زفرةً حرّى
تلوبُ تلوب في الرّدهات مثل ذبابةٍ حيرى
وتقبع في محـارتها كنهرٍ لم يـجد مجرى
- 27 –
فساتيني .. لماذا صرتُ أكرهها ؟.. لماذا لا أمـزّقها ؟!
أقلّب فوقها طرفي كأنّي لم أكن فيها أحرّكها و أملؤها
لمــن تتهـدّل الأثواب .. أحمـرها و أزرقهــا ؟
واســعها و ضـيّقها .. عاريهــا و مغلقهــا
لمن قصبي، لمن ذهبي، لمن عطر فرنسي، يقيم الأرض من حولي و يقعدها
فساتيني فراشاتٌ محنّطةٌ على الجدران أصلبها ..
وفـي قبٍــر مـن الحــرمان أدفنهــا
مسـاحيقي و أقلامي أخاف أخاف أقربـها
و أمشـاطي و مرآتي أخاف أخاف ألمسـها
فما جدوى فراديسي ولا إنسـان يدخلـها
- 28 –
مدينتنا تظلّ أثيرة عندي .. برغم جميع مافيها
أحبّ نداء باعتها .. أزقّتها أغانيها
مآذنها كنائسها سُكاراها مصلّيها
تسامحها تعصّبها عبادتها لماضيها
مدينتنا بحمد الله راضيةٌ بمن فيها وما فيها
بآلافٍ من الأموات تعلكهم مقاهيها
لقد صاروا مع الأيام جزءاً من كراسيها
صراصيرٌ محنّطةٌ خيوط الشمس تعميها
مدينتنا وراء النّرد منفقةٌ لياليها
وراء جريدة كسلى و عابرة تعرّيها
فلا الأحداث تنفضها ولا التاريخ يعنيها
مدينتنا بلا حبٍّ يرطّب وجهها الكلسي أو يروي صحاريها
مدينتنا بلا امرأة تذيب صقيع عزلتها وتمنحها معانيها
- 29 –
أقمنا نصف دنيانا على حكمٍ و أمثالِ
و شيّدنا مزاراتٍ للألفِ و ألف دجّالِ
و كالببغاء ردّدنا مواعظ ألف محتـالِ
قصدنا شيخ حارتنا ليرزقنا بأطفـالِ
فأدخلنا لحجرته و قـام بنزع جبّته
و باركنا و ضاجعنا و عند الباب طالبنا
بدفع ثلاث ليراتٍ لصنع حجابه البالي
و عدنا مثلما جئنا بلا ولدٍ ولا مـالِ
- 30 –
يعيش بداخلي وحشٌ جميلٌ اسـمه الرّجلُ
له عينان دافئتـان يقطر منهما العسـلُ
ألامسُ صدره العاري، ألامسه و أختجلُ
قروناً وهو مخبوء بصـدري ليس يرتحـلُ
ينـام وراء أثوابـي ينـام كأنّه الأجـلُ
أخاف أخاف أوقظه فيشـعلني و يشتعلُ
كمخلوقٍ خرافيّ يعيش بذهننا الرّجـلُ
تصوّرناه تنّيناً له تسعون اصبعة و شدقٌ أحمرٌ ثملُ
تصـوّرناه خفّاشـاً مـع الظلمــات ينتقـلُ
تخيّلناه قرصاناً .. تخيّلناه ثعبانـاً
أمدُّ يدي لأقتلهُ أمدُّ يدي ولا أصلُ
إلهٌ في معابدنا نصلّي له و نبتهـلُ
يغازلنا وحين يجوع يأكلنا ويملأ الكأس من دمنا و يغتسلُ
إلهٌ لا نقاومه .. يعذّبنا و نحتملُ
و يجذبنا نعاجاً من ضفائرنا و نحتملُ
و يلهو في مشاعرنا و يلهو في مصائرنا و نحتملُ
و يدمينا و يؤذينا و يقتلنا و يحيينا و يأمرنا فنمتثلُ
إلـهٌ مالـهُ عمـرٌ … إلـهٌ اسـمه الرّجـلُ
- 31 –
تلاحقنا الخرافة و الأسـاطيرُ ..
من القبر الخرافة و الأساطيُر
و يحكمنا هنا الأموات و السيّاف مسرورُ
ملايينٌ من السنوات لا شمسٌ و لا نورُ
بأيدينا مساميرٌ و أرجلنا مساميرُ
و فوق رقابنا سيفٌ رهيف الحدّ مسعورُ
و فوق فراشنا عبدٌ قبيح الوجه مجـدورُ
من النّهـدين يصلبنا و بالكرباج يجلدنا
ملايينٌ من السنوات و السيّاف مسرورُ
يعيش في خزائننا يفتّشُ في ملابسـنا
عن الأحلام نحلمها عن الأسرار تكتمها الجواريرُ
عن الأشواق تحملها التحاريرُ
ملايينٌ من السنوات و السيّاف مسرور ُ
مقيمٌ في مدينتنا
أراه في ثياب أبي .. أراه في ثياب أخي
أراه هاهنا و هنا
فكلّ رجال بلدتنا .. هم السيّاف مسرورُ
- 32 –
ثقافتنا فقاقيعٌ من الصابون و الوحلِ
فما زالت بداخلنا رواسب من أبي جهلِ
و مازلنا نعيش بمنطق المفتاح و القفلِ
نلفّ نسـائنا بالقطن ندفنهنَّ بالرّملِ
و نملكهنَّ كالسجاد كالأبقار في الحقلِ
و نهزأ من قواريرٍ بلا دينٍ ولا عقلِ
و نرجع آخر الليل نمارس حقّنا الزّوجيّ كالثيران و الخيلِ
نمارس خلال دقائق خمس بلا شوقٍ ولا ذوقٍ ولا ميـلِ
نمارسهُ كآلافٍ تؤدّي الفعلَ للفعلِ
و نرقد بعدها موتى و نتركهنَّ وسط النّار وسط الطّين و الوحلِ
قتيـلاتٍ بلا قتـلِ
بنصفِ الدّربِ نتركهنَّ .. يا لفظاظة الخيلِ
- 33 –
قضينــا العمــر فـي المخــدعْ
و جيش حريمنا معنا و صكّ زواجنا معنا
و صكّ طلاقنا معنا و قلنا الله قد شرّعْ
ليالينـا موزّعةٌ على زوجاتنـا الأربـعْ
هنا شـفةٌ هنا سـاقٌ هنا ظفرٌ هنا إصبعْ
كأنّ الدّين حانوتٌ فتحناهُ لكي نشـبعْ
تمتّعنا بما أيماننا ملكت و عشنا في غرائزنا بمستنقعْ
و زوّرنا كلام الله بالشكل الذي ينفعْ
ولم نخجل بما نصنعْ
عبثنا في قداسـتهِ .. نسـينا نبل غايتـهِ
ولم نذكر سوى المضجعْ
ولم نأخذ من كلام الدّين سوى زوجاتنا الأربعْ
- 34 –
أنا طروادةٌ أخرى ، أقاومُ كلّ أسـواري
و أرفض كل ماحولي و مَن حولي بإصرارِ
أقاوم واقعي المصنوع من قشٍّ و فخـّارِ
أقاوم كل أهل الكهف و التنجيم و الزّارِ
تواكلهـم ، تآكلهـم تناسـلهم كأبقارِ
أمامي ألف سياّفٍ و سياّفِ ..وخلفي ألف جزّارٍ و جزّارِ
فيا ربّـي أليس هنـاك مـن عـارٍ سـوى عـاري ؟!
و يا ربّي أليس هناك من شغلٍ لهذا الشرق سوى حدود زنّاري؟!
- 35 –
تظلُّ بكارةُ الأنثى بهذا الشرق عقدتنا و هاجسـنا
فعند جدارها الموهوم قدّمنا ذبائحنا و أولمنا ولائمنا
نحرنا عند هيكلها شقائقنا قرابيناً و صحنا ( واكرامتنا )
صداع الجنس مفترسٌ جماجمنا
صداعٌ مزمنٌ بشعٌ من الصحراء رافقنا
فأنسانا بصيرتنا و أنسانا ضمائرنـا
و أطلقنا .. قطيعاً من كلاب الصيد نستوفي غرائزنا
أكلنا لحم من نهوى و مسّحنا خناجرنا
و عند منصّة القاضي صرخنا ( واكرامتنا )
و برّمنا (كعنترة بن شدّادٍ ) شواربنـا
- 36 –
وداعـاً أيّهـا الدفتـرْ
وداعاً يا صديق العمرْ .. يا مصباحي الأخضرْ
و يا صـدراً بكيت عليه أعواماً و لم يضجرْ
و يا رفضي و يا سخطي و يا رعدي و يا برقي
و يـا ألـماً تحـوّل فـي يـدي خنجـرْ
تركتك في أمان الله يا جرحي الذي أزهـرْ
فإن سرقوك من درجي وفضّوا ختمك الأحمرْ
فلن يجدوا سوى امـرأةً مبعثرةً على دفتـرْ