نزار قباني |
يا ستَّ الدنيا يا بيروتْ. .
مَنْ باعَ أسواركِ المشغولةَ بالياقوتْ ؟
من صادَ خاتمكِ السّحريَّ،
وقصَّ ضفائركِ الذهبيّهْ ؟
من ذبحَ الفرحَ النائمَ في عينيكِ الخضرواينْ ؟
من شطبَ وجهكِ بالسّكّين
وألقى ماءَ النارِ على شفتيكِ الرائعتينْ ؟
من سمّمَ ماءَ البحرِ، ورشَّ الحقدَ على الشطآنِ
الورديّهْ ؟
ها نحنُ أتينا. . معتذرينَ. . ومعترفينْ
أنّا أطلقنا النارَ عليكِ بروحٍ قبليّهْ. .
فقتلنا امرأة. . كانت تُدعى (الحريّهْ). .
2
ماذا نتكلّمُ يا بيروتْ. .
وفي عينيكِ خلاصةُ حزنِ البشريّهْ
وعلى نهديكِ المحترقين. . رمادُ الحربِ الأهليّهْ
ماذا نتكلّمُ يا مروحةَ الصّيفِ، ويا وردتَهُ
الجوريّهْ ؟
من كانَ يفكّر أن نتلاقى يا بيروتُ وأنتِ
خرابْ ؟
من كانَ يفكّر أن تنمو للوردةِ آلافُ الأنيابْ ؟
من كانَ يفكّر أنَّ العينَ تقاتلُ في يومٍ ضدَّ
الأهدابْ ؟
ماذا نتكلّم يا لؤلؤتي ؟
يا سنبلتي. .
يا أقلامي. .
يا أحلامي. .
يا أوراقي الشعريّهْ. .
من أينَ أتتكِ القسوةُ يا بيروتْ
وكنتِ برقّةِ حوريّهْ ؟
لا أفهمُ كيف انقلبَ العصفورُ الدوريُّ. .
لقطّةِ ليلٍ وحشيّهْ. .
لا أفهمُ أبداً يا بيروتْ
لا أفهمُ كيف نسيتِ اللهَ. .
وعُدتِ لعصرِ الوثنيّهْ. .
3
قومي من تحتِ الموجِ الأزرقِ، يا عِشتارْ
قومي كقصيدةِ وردٍ . .
أو قومي كقصيدةِ نارْ
لا يوجدُ قبلكِ شيءٌ. . بعدكِ شيءٌ. . مثلكِ شيءٌ. .
أنتِ خلاصاتُ الأعمارْ. .
يا حقل اللؤلؤِ. .
يا ميناءَ العشقِ. .
ويا طاووسَ الماءْ. .
قومي من أجلِ الحبِّ، ومن أجلِ الشّعراءْ
قومي من أجل الخبزِ، ومن أجلِ الفقراءْ
الحبُّ يريدكِ. . يا أحلى الملكاتْ. .
والربُّ يريدكِ. . يا أحلى الملكاتْ. .
ها أنتِ دفعتِ ضريبةَ حسنكِ مثل جميعِ الحسناواتْ
ودفعتِ الجزيةَ عن كلِّ الكلماتْ. .
4
قومي من نومكِ. .
يا سُلطانةُ، يا نوَّارةُ، يا قنديلاً مشتعلاً في
القلبْ
قومي كي يبقى العالمُ يا بيروتْ. .
ونبقى نحنُ. .
ويبقى الحبّْ. .
قومي. .
يا أحلى لؤلؤةٍ أهداها البحرْ
الآن عرفنا ما معنى . .
أن نقتلَ عصفوراً في الفجرْ
الآنَ عرفنا ما معنى . .
أن ندلقَ فوقَ سماءِ الصّيفِ زجاجةَ حبرْ
الآن عرفنا . .
أنّا كُنّا ضدَّ اللهِ . . وضدَّ الشّعرْ . .
5
يا ستَّ الدنيا يا بيروتْ . .
يا حيثُ الوعدُ الأوّلُ . . والحبُّ الأوّلُ . .
يا حيثُ كتبنا الشعرَ . .
وخبّأناه بأكياسِ المُخملْ . .
نعترفُ الآنَ . . بأنّا كُنّا يا بيروتُ،
نُحبّكِ كالبدوِ الرُحّلْ . .
ونُمارسُ فعلَ الحبِّ . . تماماً
كالبدوِ الرُحَّلْ . .
نعترفُ الآنَ . . بأنَّكِ كُنتِ خليلتنا
نأوي لفراشكِ طولَ اللّيل . .
وعندَ الفجرِ، نهاجرُ كالبدوِ الرُحَّلْ
نعترفُ الآنَ . . بأنّا كُنّا أميّينَ . .
وكُنّا نجهلُ ما نفعلْ . .
نعترفُ الآنَ، بأنّا كُنّا مِن بينِ القَتَلَهْ . .
ورأينا رأسكِ . .
يسقطُ تحتَ صخورِ الرَوْشَةِ كالعصفورْ
نعترفُ الآنَ . .
بأنّا كُنّا ساعةَ نُفِّذَ فيكِ الحُكمُ
شهودَ الزورْ . .
6
نعترفُ أمامَ اللهِ الواحدِ . .
أنّا كُنّا منكِ نغارُ . .
وكانَ جمالكِ يؤذينا . .
نعترفُ الآنَ . .
بأنّا لم ننصفْكِ . . ولم نعذُرْكِ . . ولم نفهمْكِ
وأهديناكِ مكانَ الوردةِ سِكّينا . .
نعترفُ أمامَ اللهِ العادلِ . .
أنّا راودناكِ . .
وعاشرناكِ . .
وضاجعناكِ . .
وحمّلناكِ معاصينا . .
يا ستَّ الدنيا، إن الدنيا بعدكِ ليستْ تكفينا . .
الآنَ عرفنا . . أنَّ جذوركِ ضاربةٌ فينا . .
الآنَ عرفنا . . ماذا اقترفتْ أيدينا . .
7
اللهُ . . يفتّشُ في خارطةِ الجنّةِ عن لُبنانْ
والبحرُ يفتّشُ في دفترهِ الأزرقِ عن لُبنانْ
والقمرُ الأخضرُ . .
عادَ أخيراً كي يتزوّجَ من لُبنانْ . .
أعطيني كفّكِ يا جوهرةَ اللّيلِ، وزنبقةَ البلدانْ
نعترفُ الآنَ . .
بأنّا كُنّا ساديّينَ، ودمويّينَ . .
وكُنّا وكلاءَ الشيطانْ
يا ستَّ الدنيا يا بيروتْ . .
قومي من تحتِ الرَدمِ، كزهرةِ لوزٍ في نيسانْ
قومي من حُزنكِ . .
إنَّ الثورةَ تولدُ من رحمِ الأحزانْ
قومي أكراماً للغاباتِ . .
وللأنهارِ . .
وللوديانِ . .
قومي إكراماً للإنسانْ . .
إنّا أخطأنا يا بيروتُ . .
وجئنا نلتمسُ الغفرانْ . .
8
ما زلتُ أحبُّكِ يا بيروتُ المجنونهْ . .
يا نهرَ دماءٍ وجواهرْ . .
ما زلتُ أحبُّكِ يا بيروتُ القلبِ الطيّبِ . .
يا بيروتُ الفوضى . .
يا بيروتُ الجوعِ الكافرِ . . والشّبعِ الكافرِ . .
ما زلتُ أحبُّكِ يا بيروتُ العدلِ . .
ويا بيروتُ الظلمِ . .
ويا بيروتُ السّبْيِ . .
ويا بيروتُ القاتلِ والشاعرْ . .
ما زلتُ أحبُّكِ يا بيروتُ العشقِ . .
ويا بيروتُ الذبحِ من الشّريانِ إلى الشّريانْ . .
ما زلتُ أحبُّكِ رغمَ حماقاتِ الإنسانْ
ما زلتُ أحبُّكِ يا بيروتُ . .
لماذا لا نبتدئُ الآنْ ؟