جبران خليل جبران |
أرنو إلى الطور الأشم فأجتلي إيماض برق واضح الإيماء
حيث الغمامة والكليم مروع أرست وقوراً أيما إرساء
دكناء مثقلة الجوانب رهبة مكظومة النيران في الأحشاء
حتى تكلم ربها فتمزقت بين الصواعب في سنى وسناء
وتنزلت أحكامه في لوحها مكتوبة آياتها بضياء
أترى العناية بعد لأي هيأت للشرق منجاة من الغماء
فأتيح في لوح الوصايا جانب خال لمؤتنف من الإيصاء
وتخلفت بين الرمال مظنة لتفجر في الصخرة الصماء
قد آن للعاشين في ظلمائهم حقبا خروجهم من الظلماء
إني لميمون النقيبة ملهم إبراء زمناهم وري ظماء
إن لم يقدهم قائد ذو مرة متبين منهم مكان الداء
يهديهم سبل الرقي ملائما لزمانهم وطرائق العلياء
ألشاعرية لا تزال كعهدها بعد النبوة مهبط الإيحاء
والصوت إن تدع الحقيقة صوتها والنور نور خيالها الوضاء
يا شيخ سيناء التي بعث الهدى من تيهها في آية غراء
سنرى وأنت معرب عن حقها كيف الموات يفوز بالأحياء
وتنزل الأقوام عن أخطارها وتعسف الحكم والكبراء
أبناء يعرب في أسى من حقبة شقيت بها الآداب جد شقاء
جنف البغاة بها على أهل النهى واستعبد العلماء للجهلاء
وتخيل السادات في أقوامهم شعراءها ضربا من الأجراء
وهم الذين تناشدوا أقوالهم للفخر آونة وللتأساء
وبفضلهم غذيت غراث عقولهم من كل فاكهة ألذ غذاء
وبنفحة منهم غدت أسماؤهم من خالدات الذكر في الأسماء
أصلح بهم رأي الأولى خالوهم آلات تهنئة لهم وعزاء
ولتشهد الأوطان ما حسناتهم في المنصب العالي وفي الإثراء
ولتعلم الأيام ما هو شأنهم في كل موقف عزة وإباء
يا باعث المجد القديم بشعره ومجدد العربية العرباء
أنت الأمير ومن يكنه بالحجى فله به تيه على الأمراء
أليوم عيدك وهو عيد شامل للضاد في متباين الأرجاء
في مصر ينشد من بنيها منشد وصداه في البحرين والزوراء
عيد به اتحدت قلوب شعوبها ولقد تكون كثيرة الأهواء
كم ريم تجديد لغابر مجدها فجنى عليه تشعب الآراء
ما أبهج الشمس التي لاحت لها بعد القنوط وطالعت برجاء
ألشعر أدنى غاية لم يستطع إدناءها عزم وحسن بلاء
ما السحر إلا شعر أحمد مالكا منها القياد بلطف الاستهواء
قد هيأت آياته لوفودها في مصر عن أمم أحب لقاء
لا يوقظ الأقوام إلا منشد غرد ينبه نائم الأصداء
كلا وليس لها فخار خالص كفخارها بنوابغ الشعراء
يا مصر باهي كل مصر بالأولى أنجبت من أبنائك العظماء
حفلوا لأحمد حفلة ميمونة لم تأت في نبإ من الأنباء
ما أحمد إلا لواء بلاده في الشرق يخفق فوق كل لواء
علم به الوادي أناف على ذرى شم الجبال بذروة شماء
بسمت ذؤابته وما زان الربى في هامها كالحلية البيضاء
هل في لدات أبي علي نده إن يصدرا عن همة ومضاء
أو شاعر كأبي حسين آخذ من كل حال مأخذ الحكماء
فهم الحياة على حقيقة أمرها فأحبها موفورة النعماء
يجني دوانيها ولا يثنيه ما دون القواصي من شديد عناء
يقضي مناه أناقة في عيشه ويفي بحق المجد أي وفاء
عظمت مواهبه وأحرز ما اشتهى من فطنة خلابة وذكاء
إن تلقه النبوغ ممثلا في صورة لماحة اللألاء
طبعت من الحسن العتيق بطابع وضاح آيات بديع رواء
زان الخيال جمالها بسماته وأعارها قسماته لبقاء
واليوم إذ ولى الصبا لم يبق من أثر عليها عالق بفناء
لا شيء أروع إذ تكون جليسة من ذلك الرجل القريب النائي
أبدا يقلب ناظريه وفيهما تقليب أمواج من الأضواء
يرنو إلى العليا بسامي طرفه ويلاحظ الدنيا بلا إزراء
يغضي سماحا عن كثير جفنه وضميره أدنى إلى الإغضاء
فإذا تحدثه فإن لصوته لحنا رخيم الوقع في الحوباء
في نطقه الدر النفيس وإنما تصطاده الأسماع بالإصغاء
لكن ذاك الصوت من خفض به يسمو الحفاظ به إلى الجوزاء
أعظم بشوقي ذائدا عن قومه وبلاده في الأزمة النكراء
لتكاد تسمع من صرير يراعه زأرا كزأر الأسد في الهيجاء
وترى كأزندة يطير شرارها متداركا في الأحرف السوداء
وتحس نزف حشاشة مكلومة بمقاطر الياقوتة الحمراء
في كل فن من فنون قريضه ما زال فوق مطامع النظراء
أما جزالته فغاية ما انتهت شرفا إليه جزالة الفصحاء
وتكاد رقته تسيل بلفظه في المهجة الظمأى مسيل الماء
لولا الجديد من الحلى في نظمه لم تعزه إلا إلى القدماء
ناهيك بالوشي الأنيق وقد زها ما شاء في الديباجة الحسناء
يسري نسيم اللطف في زيناتها مسرى الصبا في الروضة الغناء
هتكت قريحته السجوف وأقبلت تسبي خبايا النفس كل سباء
فإذا النواظر بين مبتكراته تغزى بكل حيية عذراء
في شدوه ونواحه رجع لما طويت عليه سرائر الأحياء
هل في السماع آلام الجوى كنواحه وكشدوه بغناء
يشجي قديم كلامه كجديده وأرى القديم يزيد في الإشجاء
فمن الكلام معتق إن ذقته ألفيته كمعتق الصعباء
ملأت شوارده الحواضر حكمة وغزت نجوع الجهل في البيداء
وترى الدرارى في بحور عروضه وكأنهن دنت بهن مرائي
كم في مواقفه وفي نزعاته من مرقصات الفن والإنشاء
كم في سوانحه وفي خطراته من معجزات الخلق والإبداء
رسم النبوغ له بمختلفاتها صورا جلائل في عيون الرائي
ألممت من شوقي بنحو واحد وجلاله متعدد الأنحاء
ملأت محاسنها قلوب ولاته وتثبتت في أنفس الأعداء
لله شوقي ساجيا أو ثائرا كالليث والبركان والدأماء
لله شوقي في طرائق أخذه بطرائف الأحوال والأشياء
في لهوه وسروره في زهوه وغروره في البث والإشكاء
في حبه للنيل وهو عبادة للرازق العواد بالآلآء
في بره ببلاده وهيامه بجمال تلك الجنة الفيحاء
في وصفه النعم التي خصت بها من حسن مرتبع وطيب هواء
في ذكره متباهيا آثارها ومآثر الأجداد والآباء
في فخره بنهوضها حيث الردى يهوي بهام شبابها النبهاء
في شكره للمانعين حياضها وحماة بيضتها من الشهداء
في حثه أعوان وحدتها على ود يؤلف شملهم وإخاء
متثبتين من البناء بركنه لتماسك الأعضاد والأجزاء
في نصحه بالعلم وهو لأهله حرز من الإيهان والإيهاء
في وصفه الآيات مما أبدعت أمم يقظن ونحن في إغفاء
لم يبق من عجب عجاب خافيا في بطن أرض أو بظهر سماء
هذا إلى ما لا يحيط بوصفه فكري ودون أقله إطرائي
بلغت خلال العبقرية تمها فيه وجازت شأو كل ثناء
فإذا عييت ولم أقم بحقوقها فلقد يقوم العذر بالإبلاء
ماذا على متنكب عن غاية والشوط للأنداد والأكفاء
أعلمت ما مني هواه وإنه لنسيج عمر صداقة وفداء
أي حافظ العهد الذي أدعو وما أخشى لديه أن يخيب دعائي
أدرك أخاك وأوله نصرا بما ينبو به إلاك في البلغاء
جل المقام وقد كبت بي همتي فأقل جزاك الله خير جزاء
يأبى عليك النبل إلا أن ترى في أول الوافين للزملاء
والشرق عالي الرأس موفور الرضى برعاية النبغاء للنبغاء
يا من صفا لي وده وصفا له ودي على السراء والضراء
فأعزني يوم الحفاظ ولاؤه وأعزه يوم الحفاظ ولائي
وعرفت في نادي البيان مكانه ومكانه الأسنى بغير مراء
يهنيك هذا العيد دم مستقبلا أمثاله في صحة وصفاء