في الساعة الخامسة بعد ظهر يوم أحد من أيام الصيف كان فولوديا، وهو صبي في السابعة عشرة من عمره، بسيط، خجول، ذو مظهر عليل، جالساً في حديقة منزل شوميهين الريفي وهو يشعر بكآبة خرساء. كانت أفكاره اليائسة موزعة بين ثلاث محاور. الأول كونه ينبغي عليه أن يؤدي امتحاناً في الرياضيات غداً، يوم الاثنين. وكان يعلم أنه إن لم ينجح في هذا الامتحان التحريري فسيفصل من المدرسة، فقد مضى عليه عامان في الصف السادس، وحصل في درس الجبر في سجله السنوي على اثنين وثلاثة أرباع درجة. والثاني أنه يرى حضوره إلى (فيلا) شوميهين، وهي أسرة ثرية ذات مظاهر أرستقراطية، مصدر إهانة متكررة لعواطفه. فهو يعتقد أن مدام شوميهين تنظر إليه وإلى أمه كأتباع من أقربائهم الفقراء. إن أفراد أسرة شوميهين يضحكون على أمّه ولا يحترمونها. ولقد سمع ذات مرة مصادفة مدام شوميهين تحدث أنّا فيدورفنا في الشرفة عن أمه وتخبرها أنها تحاول أن تبدو شابة، وأنها لا تدفع خسائرها في لعب الورق أبداً، وأنها تدخن تبغ الآخرين. وفي كل يوم كان فولوديا يتضرع إلى أمّه ألاّ تذهب إلى أسرة شوميهين؛ وقد صوّر لها الدور المهين الذي تمثله مع أولئك الناس الأرستقراطيين، وألح عليها وتفوه بعبارات خشنة، لكنها -وهي امرأة طائشة سبق لها أن بددت ثروتها وثروة زوجها، ولها ميل خاص إلى أفراد الطبقة الرفيعة- لم تفهمه، فكان لزاماً عليه أن يصحبها مرتين في الأسبوع إلى (الفيلا) التي يكرهها.</p><p>والثالث أنه لم يستطع أن يتحرر من شعور غريب مضايق جديد عليه كلياً.. شعور ينم عن وقوعه في حب أنّا فيدورفنا، ابنة عمة شوميهين، وهي تعيش مع الأسرة. كانت امرأة مرحة، جهورية الصوت، مولعة بالضحك، صحيحة الجسد، فياضة بالنشاط، في الثلاثين من عمرها، بوجنتين متوردتين وكتفين مكتنزين وذقن ممتلئ مدور وابتسامة لا تفارق شفتيها الرقيقتين. لم تكن شابة ولا جميلة، وفولوديا يعلم ذلك حق العلم؛ ولكنه لسبب ما لم يستطع أن يكف عن التفكير فيها؛ يتطلع إليها وهي تهز كتفيها المكتنزين، أو تحرك ظهرها المسطح حينما تلعب (الكركت)، أو حينما تطلق ضحكة طويلة، أو بعد أن تجري على السلالم صعوداً وهبوطاً ثم تغوص في مقعد واطئ وتغلق عينيها نصف إغلاق، وتفتعل شهيقاً طويلاً متظاهرة بأنها تكاد تختنق وليس في وسعها أن تتنفس. كانت متزوجة، وكان زوجها -وهو رجل رزين وقور- مهندساً معمارياً؛ يقدم إلى (الفيلا) مرة في الأسبوع وينام نوماً عميقاً ثم يعود إلى المدينة. وقد تلمس هذا الشعور الغريب المضايق حينما أحسّ بكراهية نحو المهندس لا مبرر لها، وبراحة عميقة كلما عاد إلى المدينة.</p><p>وقد أحسّ الآن، وهو يجلس في الحديقة، ويفكر بامتحانه غداً، وبأمّه التي يسخرون منها، برغبة عظيمة في رؤية نيوتا (وهو الاسم الذي تنادي به أسرة شوميهين أنّا بتروفنا)، في سماع ضحكها وحفيف ثوبها. ولم تكن هذه الرغبة من نوع الحب الطاهر الشعري الذي يقرأ عنه في الروايات ويحلم به كل ليلة حينما يأوي إلى فراشه، بل هي رغبة غريبة مبهمة؛ إنه ليخجل منها، ليخافها كشيء خطير جداً، شيء ملوث، شيء لا يليق الاعتراف به حتى لنفسه.</p><p>«إنه ليس غراماً» قال في نفسه «لا يمكن للمرء أن يقع في غرام نساء متزوجات في الثلاثين. إنه مكيدة صغيرة.. نعم مكيدة».</p><p>وراح يفكر بحيائه الشديد، بحاجته إلى شارب، ينمشه، بعينيه الضيقتين، ووضع نفسه في مخيلته بجوار نيوتا، فبدا له هذا الوضع مستحيلاً، فبادر إلى تخيل نفسه جريئاً، جميلاً، فكهاً، مرتدياً لباساً على أحدث طراز.</p><p>وإذ كان غارقاً في أحلامه مركزاً عينيه في بقعة مظلمة من الحديقة تناهت إلى سمعه خطوات خفيفة. كان أحد الأشخاص يسير متمهلاً في ممشى الحديقة. ثم توقفت الخطوات وومض شيء أبيض في المدخل.</p><p>- أهناك أحد؟</p><p>سأل صوت امرأة. وعرف فولوديا الصوت ورفع رأسه في فزع.</p><p>«من هنا؟» سألت نيوتا وهي تدخل الحديقة «آه، أهو أنت يا فولوديا؟ ماذا تعمل هنا؟ تفكر؟ وكيف تستطيع الاستمرار مفكراً، مفكراً، مفكراً؟! تلك هي الطريقة التي تفقد بها صوابك».</p><p>نهض فولوديا وتطلع مبهوراً إلى نيوتا. كانت قد خرجت من الحمام لتوها. كانت تعلق على كتفها منشفة كبيرة وقطعة قماش، وكان في وسعه أن يرى شعرها المبلل ملتصقاً بجبينها من تحت المنديل الحريري الأبيض الذي يطوق رأسها. وكانت رائحة الحمام ورائحة الصابون ما تزال تفوح حولها. وكان زرّ قميصها الأعلى مفتوحاً فاستطاع فولوديا أن يرى بلعومها وصدرها.</p><p>«لماذا لا تقول شيئاً؟» قالت نيوتا وهي ترمقه بنظرات لائمة «إن الصمت مناف للأدب حينما تكلمك سيدة. يا لك من أخرق يا فولوديا! أنت تجلس صامتاً دائماً ولا تقول شيئاً، مفكراً كأحد الفلاسفة. ليس فيك شرارة من نار أو حياة. أنت فظيع حقاً. ينبغي أن تكون مليئاً بالحياة في مثل هذه السن؛ تقفز، وتتحدث كثيراً، وتغازل، وتحب».</p><p>نظر فولوديا إلى قطعة القماش التي تمسك بها يد سمينة بيضاء، وانطلق يفكر...</p><p>«إنه أبكم» قالت نيوتا في عجب «إنه لأمر غريب حقاً.. أصغ، كن رجلاً. هيا، بوسعك أن تبتسم على الأقل» وضحكت «ولكن أتعلم يا فولوديا لماذا أصبحت أخرقاً؟ لأنك لا تبالي بالنساء. لم لا تفعل؟ حقاً إن هذا المكان خال من الفتيات، ولكن ليس هناك ما يحول دون مغازلتك للنساء المتزوجات. لماذا لا تغازلني مثلاً؟».</p><p>أصغى إليها فولوديا وحك جبينه في حيرة أليمة.</p><p>«إن الذين يحبون الوحدة والصمت هم المتعجرفون فقط» استمرت نيوتا قائلة وهي تبعد يده عن جبينه «أنت متعجرف يا فولوديا. لماذا ترنو إليّ من تحت حاجبيك؟ انظر إليّ في الوجه مباشرة إذا شئت. أجل أيها الأخرق».</p><p>وقرّ عزم فولوديا على الكلام، فلوى شفته السفلى محاولاً الابتسام ورمش عينيه، ثم وضع يده على جبينه ثانية وقال: أنا... أنا أحبك.</p><p>رفعت نيوتا حاجبيها في دهشة وضحكت.</p><p>«ماذا أسمع؟» أخذت تغني كما تغني المغنية الرئيسة في الأوبرا لدى سماعها شيئاً فظيعاً «ماذا؟ ماذا قلت؟ قلها ثانية، قلها ثانية».</p><p>ردّد فولوديا: أنا... أنا أحبك.</p><p>وبحركة آلية، بدون تأمل أو إدراك، تقدم نصف خطوة نحو نيوتا وأمسك ذراعها. كان كل شيء مظلماً أمام عينيه، وامتلأت عيناه بالدموع. واستحال الكون بأجمعه إلى منشفة كبيرة تفوح منها رائحة الحمام.</p><p>«برافو... برافو» وسمع ضحكة مرحة «لماذا لا تتكلم؟ أريدك أن تتكلم. حسناً؟».</p><p>حدق فولوديا في وجهها الضاحك حينما رأى أنها لم تصده عن الإمساك بذراعها. وببلادة، بفظاعة، وضع ذراعيه حول خصرها فالتقت يداه وراء ظهرها، وأمسك بها من خصرها بكلتا ذراعيه. قالت في صوت هادئ وهي ترفع ذراعيها إلى رأسها لتسوي شعرها تحت المنديل فتبين غمازة مرفقيها: ينبغي أن تكون لبقاً، مؤدباً، ساحراً، ولا يمكنك أن تصبح كذلك إلا بتأثير المرأة. ولكن يا للشر والغضب المرتسم على وجهك.. أجل يا فولوديا، لا تكن فظاً، أنت شاب وما يزال أمامك وقت طويل للتفلسف... هيا، دعني، إنني ذاهبة.. دعني..».</p><p>حررت خصرها بدون صعوبة، وغادرت الحديقة متمهلة وهي تترنم بلحن. وبقي فولوديا وحيداً. مسد شعره وابتسم، وقطع الحديقة ذهاباً وجيئة مرات ثلاث، ثم جلس على المصطبة وابتسم ثانية.</p><p>اجتاحه خجل لا يوصف، حتى لقد عجب كيف يمكن أن تبلغ حدة الخجل الإنساني إلى تلك الذورة. ودفعه خجله إلى الابتسام، إلى تحريك يديه مؤشراً، إلى الهمهمة بكلمات غير مترابطة.</p><p>كان خجلاً من معاملته كصبي صغير، خجلاً من حيائه، خجلاً -أكثر من كل ذلك- من وقاحته التي سولت له تطويق خصر امرأة محترمة. وبدا له أن أي شيء في مظهره الخارجي أو في سنّه، بل وفي وضعه الاجتماعي، لا يخوله حق الإقدام على ذلك العمل.</p><p>نهض وغادر المكان. ودخل مخبأ الحديقة بعيداً عن البيت من دون أن يتلفت حواليه.</p><p>«آه، لابد من الابتعاد عن هذا المكان بأسرع وقت ممكن» فكر وهو يعصر رأسه «يا إلهي، بأسرع وقت ممكن».</p><p>كان موعد سفر القطار الذي يعود فيه فولوديا مع أمه في الساعة الثامنة والأربعين دقيقة. لم يزل ثمة ثلاث ساعات على موعد سفر القطار، وإنه ليود أن يمضي إلى المحطة بكل سرور بدون انتظار أمّه.</p><p>في الساعة الثامنة دخل المنزل. كانت هيئته تنم عن عزم مكين. ماذا سيحدث! لقد قرّ عزمه على الدخول في جرأة، على التحديق في وجوههم غير مبال بشيء.</p><p>عبر الشرفة والبهو الكبير وغرفة الاستقبال، ثم توقف ليلتقط أنفاسه. كان بإمكانه أن يسمعهن يشربن الشاي في غرفة الطعام. وكانت مدام شوميهين وأمه ونيوتا يتحدثن عن شيء ما ويضحكن.</p><p>أنصت فولوديا.</p><p>«أؤكـد لكما» قالت نيوتا «لم أسـتطع أن أصدق عيني. ولما بدأ يكشـف عن عواطفه، و-تصوروا فقط- لف ذراعيه حول خصري، كنت سأشك في شخصيته. وأنتما تعلمان أنه ذو طريقة خاصة. وحينما أعلن حبه كان على وجهه تعبير قاس مثل سير كاسيان».</p><p>«حقاً» قالت أمه وهي تنفجر ضاحكة «حقاً، كم يذكرني بأبيه!».</p><p>واستدار فولوديا على عقبيه، وهرع خارج المنزل إلى الهواء الطلق.</p><p>«كيف يمكنهن الحديث عن هذا بصوت مرتفع؟!» تساءل فولوديا وهو يشبك يديه في ألم ويتطلع إلى السماء في رعب «يتحدثن بصوت مرتفع وبكل برود.. وقد ضحكت أمي.. أمي.. يا إلهي، لماذا وهبتني هذه الأم؟ لماذا؟».</p><p>ولكن لابد له أن يعود إلى المنزل مهما حدث. وذرع الشارع ثلاث مرات رواحاً وغدواً، وشاع الهدوء في نفسه، فرجع إلى البيت.</p><p>- لماذا لم تجئ وقت الشاي؟</p><p>«أنا آسف.. لقد.. لقد حان وقت عودتي» تمتم دون أن يرفع أنظاره «ماما، الساعة الثامنة الآن».</p><p>«عد لوحدك يا عزيزي» قالت أمه بفتور «سأقضي هذه الليلة مع ليلى.. مع السلامة يا عزيزي. دعني أرسم شارة الصليب فوقك».</p><p>رسمت إشارة الصليب فوق ولدها وقالت بالفرنسية مخاطبة نيوتا: إنه أقرب شبهاً بليرمنتوف.. أليس كذلك؟</p><p>ألقى فولوديا تحية الوداع ثم غادر غرفة الطعام دون أن ينظر في وجه إحداهن. وبعد دقائق عشر كان يقطع الطريق المؤدي إلى المحطة فرحاً مسروراً. إنه لم يعد يشعر بعد بالخوف أو الخجل. تنفس الهواء بحرية ويسر.</p><p>جلس على صخرة على بعد حوالي نصف ميل من المحطة، وانطلق يحدق في الشمس التي كان نصف منها متوارياً وراء أكمة. كان ثمة أضواء متفرقة في المحطة. وكان أحد المصابيح الخضر يرسل ضوءاً معتماً، لكن القطار لم يلح بعد. شعر فولوديا بالبهجة في الجلوس ساكناً بدون حركة في مراقبة المساء وهو يقبل شيئاً فشيئاً. وارتسم في مخيلته بوضوح عظيم ظلام الحديقة، صوت الخطوات، رائحة الحمام، القهقهة، الخصر، ولم تبد له هذه الأشياء مزعجة وخطيرة كما كانت من قبل.</p><p>وفكر: «ليس للأمر أدنى اعتبار.. إنها لم تسحب يدها بعيداً، وقد ضحكت حينما طوقت خصرها. لابد أنها كانت راضية. ولو كانت منزعجة لغضبت...».</p><p>أحس فولوديا بالأسف على ما كان يعوزه من جرأة أكثر. وغمره أسف لسفره الآن بهذه الطريقة البليدة. وألحت عليه فكرة بأنه سيكون أعظم جرأة إذا ما تكررت مثل تلك الحادثة معه، وأنه لن يعيرها مثل هذا الاهتمام. وليس ببعيد أن تسنح له مثل تلك الفرصة ثانية. فقد اعتدن أن يتمشين وقتاً طويلاً حوالي (الفيلا) بعد العشاء. وإذا ما سار فولوديا إلى جوار نيوتا في الحديقة المظلمة فستسنح له تلك الفرصة.</p><p>وفكر: «سأعود إلى (الفيلا) وأسافر بقطار الصباح.. سأزعم أن القطار فاتني».</p><p>استدار راجعاً... كانت مدام شوميهين وأمه ونيوتا وإحدى بنات العمة جالسات في الشرفة يلعبن الورق. ولما ألقى إليهن فولوديا أكذوبته انتابهن القلق خشية تأخره عن موعد الامتحان غداً ونصحنه بأن يصحو مبكراً. وكان فولوديا طوال الوقت الذي صرفنه في لعب الورق جالساً في جهة واحدة، يلتهم نيوتا بعينيه، وينتظر... ولقد هيأ خطة محكمة في ذهنه؛ سيقصد إلى نيوتا في الظلام، ويتناول يدها، ثم يطوقها، ولا حاجة به إلى القول فسيفهم كلاهما بدون كلمات.</p><p>لكن السيدات لم يتمشين عقب العشاء بل واصلن اللعب. ولبثن يلعبن حتى الساعة الواحدة صباحاً، ثم تفرقن إلى النوم.</p><p>«ما أعظم سخافة كل هذا!» فكر فولوديا بانزعاج وهو يلجأ إلى فراشه «ولكن لا بأس، سأنتظر حتى الغد.. غداً في الحديقة.. هذا غير مهم».</p><p>لم يحاول النوم بل جلس في فراشه ململماً ركبتيه وانطلق يفكر. كانت كل فكرة تدور حول امتحان الغد كريهة لديه. وآمن بأنه سيفصل وأنه لا شيء فظيع في فصله. وعلى العكس من ذلك فهو شيء حسن، بل حسن جداً. فسيكون في اليوم التالي حرّاً كالطير، وسيرتدي ملابس اعتيادية بدلاً من ملابس المدرسة، وسيدخن علانية، وسيقدم إلى هنا ويغازل نيوتا متى شاء، ولن يكون (تلميذ مدرسة) بل (شاب). أما عن المستقبل فهو واضح أمامه؛ سينضم إلى الجيش، أو إلى مصلحة التلغراف، أو يعمل في حانوت صيدلي ويصبح صيدلياً يوماً ما. هناك مهن كثيرة. وانقضت ساعة أو ساعات وهو غارق في أفكاره.</p><p>حوالي الساعة الثالثة، حينما شعشع الفجر، فتح الباب بهدوء ودلفت أمه.</p><p>«ألست نائماً؟» قالت وهي تتثاءت «نم، جئت لألبث دقيقة فقط... لأحضر القطرات..».</p><p>- ولأجل أي شيء؟.</p><p>- اعترت ليلى التشنجات ثانية. نم يا بني، إن امتحانك غداً...</p><p>انتزعت من الخزانة قنينة ودنت من النافذة، وقرأت رقعة العنوان ثم خرجت.</p><p>«ماريا لينتيفنا.. هذه ليست قنينة القطرات» سمع فولوديا بعد دقيقة صوت امرأة تهتف «هذه قطرات (زهرة الوادي) وليلى في حاجة إلى مورفين. هل ابنك نائماً؟ سليه أن يبحث عنها».</p><p>كان صوت نيوتا. وارتعش جسد فولوديا. وارتدى سرواله عجلاً، ورمى سترته على كتفيه وهرع إلى الباب.</p><p>«أتفهمين؟ مورفين» قالت نيوتا هامسة «لابد أن هناك رقعة على الزجاجة مكتوبة باللاتيني. أيقظي فولوديا. سيعثر عليها».</p><p>فتحت أمه الباب فرأى نيوتا. كانت ترتدي نفس الدثار الفضفاض الذي لبسته بعد الحمام. وتهدل شعرها على كتفيها في فوضى، وبدا وجهها ناعساً وقاتماً في النور الأغبش.</p><p>قالت وهي تلمحه: لماذا، فولوديا ليس نائماً. فولوديا، ابحث في الخزانة عن زجاجة المورفين. ليلى متعبة! إنها تصاب بشيء مزعج دائماً!.</p><p>تمتمت أمه بشيء وتثاءبت ثم انصرفت.</p><p>قالت نيوتا: ابحث عنها.. لماذا تقف جامداً؟!</p><p>اتجه فولوديا إلى الخزانة وركع وطفق يتفحص زجاجات وصناديق الدواء. كانت يداه ترتعشان، وكان يحس بموجات باردة تتلاطم في صدره وداخله. وشعر باختناق ودوار من رائحة حامض الفنيك والأثير والأدوية الأخرى التي كان ينتزعها بأصابعه المرتجفة بدون ضرورة فيريق شيئاً منها.</p><p>وفكر: «أظن أن أمي انصرفت.. هذا حسن.. حسن».</p><p>- ألا تسرع؟</p><p>قالت نيوتا ببطء.</p><p>«دقيقة.. أعتقد أن هذا مورفين» قال فولوديا وهو يقرأ على إحدى الزجاجات كلمة (مورف) «ها هي ذي».</p><p>كانت نيوتا تقف في الباب وقد وضعت قدماً في الغرفة وأخرى في الممر. كانت تحاول أن تسوي شعرها عبثاً، فهو طويل وكثيف جداً. ورنت إلى فولوديا بنظرات شاردة. وبدت بدثارها الفضفاض، بوجهها الناعس، بشعرها المتهدل، في النور الفضي، آسرة، رائعة. ناولها الزجاجة وهو مسحور، مرتعد الجسم، يتذكر في تلذذ كيف طوق هذا الجسد اللذيذ بين ساعديه وقال: ما أروعك!</p><p>- ماذا؟</p><p>تقدمت في الغرفة.</p><p>- ماذا؟</p><p>سألته باسمة.</p><p>كان صامتاً. ورنا إليها ثم تناول يدها، كما حدث في الحديقة بالضبط، فنظرت إليه باسمة، وظلت تنتظر ماذا يمكن أن يعقب ذلك.</p><p>وهمس: إنني أحبك.</p><p>تلاشت ابتسامتها، وفكرت لحظة ثم قالت: انتظر قليلاً، أعتقد أن هناك شخصاً قادم. آه من تلاميذ المدارس!</p><p>قالت بلهجة استسلام وهي تمضي إلى الممر وتمد بصرها فيه. «كلا... ليس هناك أحد».</p><p>وعادت إليه.</p><p>ثم بدا لفولوديا أن الغرفة، نيوتا، شروق الشمس، هو، أن كل شيء قد ذاب في شعور من الغبطة العميقة الفائقة التي لا تصدق، والتي يمكن أن يضحي المرء بحياته كلها من أجلها مواجهاً العذاب الأبدي... ثم لم يمض نصف دقيقة وإذا به يرى فجأة أمامه وجهاً مكتنزاً عاديّاً، قد شوهته الرغبة، فتملكه اشمئزاز حاد.</p><p>«لابد أن أذهب على أية حال» قالت نيوتا وهي ترمق فولوديا بنظرات احتقار «يا لك من صبي قبيح، بائس.. تباً لك أيها البطة!».</p><p>بدا له شعرها الطويل، دثارها الفضفاض، خطواتها، صوتها، كريهاً شائناً.</p><p>«بطة قبيحة» فكر إثر انصرافها «إنني قبيح حقاً.. كل شيء قبيح».</p><p>كانت الشمس مشرقة، والطيور تغرد في ضجيج، وكان في وسعه سماع خطوات البستاني وقرقعة عربته. ثم سمع خوار الأبقار وأنغام ناي أحد الرعاة. وحدثته الشمس والأصوات أن ثمة حياة طاهرة، نقية، شعرية، في مكان ما من هذا العالم. ولكن أين هذا المكان؟ إنه لم يسمع أية كلمة عنه من أمه، أو من أي شخص حواليه.</p><p>حين أقبل الخادم لإيقاظه كي لا يفوته قطار الصباح تظاهر بالنوم.. وهمس لنفسه: «إلى الشيطان».</p><p>وصحا بين الساعة العاشرة والحادية عشرة. فكر وهو يمشط شعره أمام المرآة ويتمعن في وجهه القبيح الشاحب الذي أضناه السهاد: «إنها لحقيقة أكيدة.. بطة قبيحة». وقال لأمه وقد جزعت لرؤيته متأخراً عن الامتحان: غلبني النوم يا ماما.. ولكن لا داعي للقلق، فسأنال شهادة طبية.</p><p>استيقظت مدام شوميهين ونيوتا في الساعة الواحدة. وسمع فولوديا مدام شوميهين تفتح نافذتها في ضجة، وتناهت إليه قهقهة نيوتا. ثم انفتح الباب ورأى صفاً طويلاً من المنافقات (بينهن أمه) يتحلقن حول مائدة الفطور، ولمح وجه نيوتا الضاحك النظيف وحاجبي ولحية المهندس الذي وصل من المدينة لتوه.</p><p>كانت نيوتا مرتدية حلة من حلل (الروسيين الصغار) لا تناسبها أبداً، أكسبتها مظهر الخرقاء؛ وكان المهندس يلقي نكات عامية متعبة. خيل لفولوديا أن نيوتا تضحك بصوت مرتفع لغرض مقصود. وظلت تتطلع إلى جهته لتفهمه أن ذكرى الليلة السابقة لا تزعجها أبداً، إن حضور البطة القبيحة على مائدة الطعام لم يجلب انتباهها.</p><p>في الساعة الرابعة قصد فولوديا بصحبة أمه إلى المحطة. وأثارت فيه الذكريات الشائنة، الليلة المسهدة، ارتقاب الفصل من المدرسة، لسعات الضمير، غضباً قاتماً عنيفاً. تأمل وجه أمه الجانبي، أنفها الصغير، رداء المطر الذي أهدته إليها نيوتا، ثم تمتم بانزعاج: لماذا تستعملين (البودرة) يا ماما؟ ذلك لم يعد ملائماً لسنك. أنت تسرفين في التزين، ولا تدفعين خسائرك في القمار، وتدخنين تبغ الآخرين.. هذا شيء كريه. أنا لا أحبك.. لا أحبك.</p><p>لقد أهانها. نقلت عينيها الصغيرتين في انزعاج، وشبكت يديها الرقيقتين وهمست في جزع: ماذا تقول يا عزيزي! سيسمعك الحوذي! اسكت وإلا سمعك الحوذي. بإمكانه أن يسمع كل شيء.</p><p>«أنا لا أحبك.. لا أحبك» استمر فولوديا يقول وهو متلاحق الأنفاس «أنت مجردة من الروح، مجردة من الأخلاق... حذار أن ترتدي هذا المعطف مرة أخرى.. أتسمعين؟ وإلا فسأمزقه إرباً...».</p><p>قالت أمه وهي تبكي: تمالك نفسك يا بني.. سيسمعك الحوذي.</p><p>- وأين ثروة أبي؟ أين ثروتك؟ بددتها كلها. أنا لست خجلاً من كوني فقيراً. لكنني خجل من مثل هذه الأم... إنني أحمر خجلاً دائماً عندما يسألني عنك التلاميذ.</p><p>كان قطارهما يمر بمحطتين قبل وصولهما إلى المدينة. أمضى فولوديا الوقت في الفسحة الصغيرة التي تربط عربتين. كان يرتجف من قمة رأسه إلى أخمص قدميه. ولم يشأ أن يجلس في ديوان العربة لأن أمه التي يكرهها كانت هناك. وأحس بكره لنفسه، لعامل التذاكر، للدخان المنبعث من الماكنة، للبرد الذي يعزي إليه ارتجافه. وكلما اشتدت الكآبة في قلبه كلما قوي شعوره بأنه في مكان ما من العالم، بين طائفة من الناس، توجد حياة طاهرة، شريفة، دافئة، نقية، فياضة بالحب والشفقة والمرح والإخلاص، فيزداد إحساسه بشقائه، حتى لقد سأله أحد المسافرين وهو يتفحص وجهه: أتشكو من وجع الأسنان؟.</p><p>كان فولوديا يعيش في المدينة مع ماريا بتروفنا، وهي سيدة ذات أصل نبيل، تمتلك منزلاً كبيراً تؤجر غرفه للنزلاء. وكانت لأمه غرفتان، واحدة ذات نوافذ وصورتين بإطارين مذهبين معلقتين على الجدار، وفيها سريرها، وهي خاصة بها، وأخرى صغيرة مظلمة متصلة بها مخصصة لفولوديا، وليس فيها سوى أريكة يتخذها له فراشاً. لكن الغرفة تكتظ بسلال خصافية طافحة بالملابس وصناديق القبعات وأشياء أخرى من سقط المتاع التي تحتفظ بها أمه لسبب أو لآخر. وكان فولوديا يستذكر دروسه إما في غرفة أمه أو في الصالة التي يلتقي فيها النزلاء وقت الغداء وبعض الأمسيات.</p><p>ولدى وصولهما إلى البيت اضطجع فولوديا على الأريكة وتدثر باللحاف ليوقف ارتجافه. وذكرته سلال الخصاف وصناديق (الكرتون) وسقط المتاع أنه لا يملك غرفة خاصة، أنه لا يستطيع أن يركن إلى ملجأ منعزل، بعيداً عن أمه، عن زائريها، عن الأصوات المنبعثة من الصالة. وذكّره القمطر والكتب المبعثرة حواليه بالامتحان الذي فاته.. ولسبب ما، بدون مناسبة أبداً، خطرت في ذهنه بلدة منتون التي عاش فيها مع أبيه حينما كان في السابعة من عمره. وفكر ببياتريس وطفلتين أخريتين كان يجري معهن على الرمال... وحاول أن يستعيد في ذاكرته لون السماء، البحر، ارتفاعات الأمواج، مزاجه في ذلك الحين، لكنه لم يفلح. ومرقت الفتيات الإنجليزيات في مخيلته كما لو كن أحياء، لكن كل شيء ظل مشوشاً مختلطاً.</p><p>«كلا، إن الجو بارد هنا» فكر فولوديا ونهض وارتدى سترته ومضى إلى الصالة.</p><p>كانوا يحتسون الشاي في الصالة. وكان يتحلق حول (السماور) ثلاثة أفراد؛ أمه، وسيدة عجوز تدرّس الموسيقى وتلبس (مونيكلا)، و أوگستين ميهيليتش، رجل كهل وضخم جداً يشتغل في مصنع للعطور.</p><p>قالت أمه: إنني لم أتغد اليوم. فكرت في إرسال الخادمة لشراء بعض الخبز.</p><p>- دونياشا.</p><p>صاح الفرنسي.</p><p>وظهر أن ربة الدار أرسلت الخادمة إلى مكان ما.</p><p>«أوه، لا أهمية لذلك» قال الفرنسي باسماً «سأذهب بنفسي لشراء بعض الخبز حالاً. إنه لا شيء».</p><p>ووضع سيگاره الكبير في مكان بارز، وارتدى قبعته وخرج. وراحت أمه تحدّث مدرّسة الموسيقى إثر خروجه، كيف تمكث لدى أسرة شوميهين، وكيف يرحبون بها بحرارة. قالت: «إن ليلى شوميهين قريبة لي كما تعلمين. كان زوجها المرحوم الجنرال شوميهين ابن عم زوجي، وكانت هي بارونة كولب».</p><p>«ماما، هذه أكاذيب» قال فولوديا بخشونة «لماذا تروين أكاذيب؟!».</p><p>كان يعلم جيداً أن ما قالته أمه صحيح؛ لم تكن هناك كلمة مكذوبة واحدة فيما قالته عن الجنرال شوميهين والبارونة كولب. لكن كان ثمة شيء يوحي بكذبها في طريقة حديثها، في تعبير وجهها، في عينيها، في كل شيء. «أنت تكذبين» كرر فولوديا وخبط جمعه على المنضدة بعنف فارتجفت الأواني وانسكب شاي أمه «لماذا تتحدثين عن الجنرال والبارونة؟ هذه أكاذيب كلها».</p><p>انتاب الارتباك مدرّسة الموسيقى وسعلت في منديلها محاولة أن تعطس، وأجهشت الأم بالبكاء.</p><p>«أين المفر» فكر فولوديا.</p><p>لقد أصبح في الشارع فعلاً... إنه خجل من مواجهة زملائه في المدرسة. وتذكر ثانية، بدون مناسبة تماماً، الفتاتين الإنجليزيتين. وانطلق يذرع الصالة. ثم قصد إلى غرفة أوگستين ميهيلش. كانت تفوح فيها رائحة زيت أثيري وجليسرين. وكانت القناني والأقداح موزعة على المناضد والمقاعد، بل وحافة النافذة أيضاً وهي تحتوي على سوائل ذات ألوان عديدة. تناول فولوديا جريدة من المنضدة وقرأ عنوان (الفيگارو).. كان ثمة رائحة قوية ومبهجة فيها. ثم التقط من المنضدة مسدساً...</p><p>«هيا، هيا، لا تبالي بهذا» حاولت المدرّسة أن تهدئ أمه في الغرفة المجاورة «إنه شاب. الشباب في سنه لا يتمالكون أنفسهم. على المرء أن يهيئ نفسه لمثل هذه الأمور».</p><p>«كلا يا يفگينيا أندريفنا، إنه فسد كلياً» قالت أمه في صوت ملول «ليس له أحد يحكمه. وأنا ضعيفة وليس في قدرتي عمل شيء.. أوه، إنني شقية».</p><p>وضع فولوديا فوهة المسدس في فمه، وتلمس شيئاً كالمحرك وضغط عليه بإصبعه. ثم شعر بشيء آخر يبرز، وضغطه مرة أخرى. أخرج الفوهة من فمه ومسحها بطرف سترته، ثم نظر إلى داخلها. إنه لم يمسك من قبل سلاحاً بيده...</p><p>وفكر: «أظن أن على المرء أن يرفع هذا... نعم، يبدو هكذا».</p><p>عاد أوگستين ميهيلتش إلى الصالة وطفق يحدثهما عن شيء ما وهو يضحك. ووضع فولوديا الفوهة في فمه ثانية وكزّ عليها بأسنانه، وضغظ شيئاً ما بإصبعه. ودوى صوت طلق ناريّ وضرب شيء ما فولوديا في مؤخرة رأسه بعنف فظيع، وسقط رأسه إلى الأسفل على المنضدة بين القناني والأقداح. ثم رأى أباه كما في بلدة منتون، يرتدي قبعة عالية بشريط أسود عريض. وأمسكته من كلتا ذراعيه فجأة سيدة ترتدي الحداد، وسقطا على رأسيهما في حفرة مظلمة وعميقة جداً.</p>ثم تلطخ كل شيء وتلاشى.