يحمل الخراط جريجوري بتروف زوجته العجوز المريضة إلى المستشفى المحلي,و هو المعروف منذ زمن بعيد كأسطى رائع , و في الوقت نفسه كواحد من أكثر الرجال ضلالا في مقاطعة جالتشينيك كلها. كان عليه أن يقطع حوالي ثلاثين فرسخا , بينما الطريق فظيع لا يقوى عليه حتى حوذي البريد الحكومي , لا هذا الكسول , الخراط جريجوري. ففي الوجه مباشرة تضرب ريح حادة باردة. و في الهواء, حيثما نظرت تدور سحب كاملة من ندف الثلج , حتى أن الناظر لا يعرف هل يسقط الثلج من السماء أم يصعد من الأرض. و من خلف الضباب الثلجي لا يبين الحقل و لا أعمدة البرق و لا الغابة , و عندما تهب على جريجوري دفقة ريح قوية بشكل خاص لا يعود يرى حتى قوس الحصان . و الفرس العجوز المتهالكة تجر قوائمها بالكاد.
فقد تبددت كل طاقتها في سحب القوائم من الثلج العميق و في هز الرأس . كان الخراط متعجلا , و راح يقفز فزق مقعده بقلق و ينهال بالسوط كثيرا على ظهر الفرس , و هو يدمدم :
-لا تبكي يا متريونا .. اصبري قليلاً.ان شاء الله نصل إلى المستشفى, و على الفور يذهب منك هذا ال... سيعطيك بافل ايفانيتش قطرات, أو يأمر بحجمك, و ربما يتفضل فيدلكونك بالكحول , و عندئذ يذهب عن جنبك هذا ال... سيبذل بافل ايفانيتش جهده. سيصيح بنا, و يضرب الأرض بقدميه, لكنه سيبذل جهده. إنه سيد عظيم, عطوف, ربنا يعطيه الصحة... عندما نصل سيخرج على الفور من مسكنه و يبدأ قبل كل شيئ في السباب و الصياح:"كيف ؟ ما هذا ؟ لماذا ؟ لم تأت في الوقت المناسب؟ و هل أنا كلب حتى أضيِّع اليوم كله في مشاكلكم أيها الشياطين؟ لماذا لم تأت في الصباح؟ امش من هنا ! إياك أن تراك عيناي . تعال غدا" . فأقول له :"يا حضرة الدكتور ! يا بافل ايفانيتش! يا صاحب السعادة !" .
-هيا سيري, سيري عليك اللعنة ! هيا !
و ينهال الخراط على الفرس, و دون أن ينظر إلى زوجته العجوز يستطرد و هو يدمدم لنفسه :
"يا صاحب السعادة ! الله شاهد على ما أقول, بحق الصليب. لقد خرجت مع الفجر, و لكن كيف تصل في الموعد اذا كان الرب قد غضب و أرسل هذه العاصفة ؟ ها أنتم ترون بأنفسكم, حتى الفرس الأصيلة لا تقوى على السير , أما أنا فكما ترون ليس عندي فرس بل مصيبة !" فيعبس بافل إيفانيتش و يصيح :"أنا أعرفكم ! دوما تجدون لكم مخرجا! خاصة أنت يا جريشكا ,فأنا أعرفك منذ زمن, تراك الآن عرجت على الحانة خمس مرات !" فأقول له:"يا صاحب السعادة, هل تظنوني عربيدا أم كافرا ! العجوز تلفظ أنفاسها , تموت , و أنا أعرج على الحانات ! ماذا تقولون ! فليحل بها الخراب هذه الحانات !" .
عندئذ يأمر بافل ايفانيتش بنقلك إلى المستشفى . أما أنا فأرتمي على قدميه.. "يا بافل ايفانيتش يا صاحب السعادة ! نشكركم من صميم القلب. سامحنا نحن الحمقى, الملاعين , لا تؤاخذنا نحن الفلاحين ! نستحق منكم الطرد , و بدلا من ذلك تهتمون بنا و تلوثون أقدامكم في الثلج". و ينظر بافل ايفانيتش اليَ و كأنه يريد أن يضربني , و يقول :"بدلا من الإرتماء على قدمي كان من الأفضل أيها الأحمق, ألا تشرب الفودكا , و تعطف على عجوزك. إنك تستحق الجلد."
"عين الحقيقة يا بافل ايفانيتش, أستحق الجلد, أي والله أستحقه ! و كيف لا نرتمي على قدميكم إذا كنتم راعينا و أبانا؟ يا صاحب السعادة ! أقول لكم الحق, و الله شاهد , أبصقوا في عيني لو كنت أكذب عليكم : بمجرد أن تشفى زوجتي متريونا, و تقف على قدميها فسأفعل كل ما أمرتم به ! لو أردتم صنعت لكم علبة سجاير من خشب البتولا الكاريلية, أو كرات للكروكيت , و أستطيع أن أخرط كيلا مثل الأجنبية بالضبط. سأصنع من أجلكم أي شيئ, و لن آخذ منكم كوبيكا. في موسكو يأخذون أربع روبلات مقابل مثل هذه العلبة, أما أنا فلن آخذ كوبيكا" . فيضحك الدكتور و يجيب:"طيب, طيب مفهوم! إنما من المؤسف أنك سكير"..
-إنني أعرف يا أختي العجوز كيف أتعامل مع السادة. لا يوجد سيد لا أتفاهم معه. المهم أن يلطف ربنا و لا نضل الطريق. أوه يا للعاصفة ! تعمي العيون !
و يمضي الخراط في دمدمته بلا توقف. يتحرك لسانه آليا لكي يكبت و لو إلى حد ما إحساسه المرهق. و الكلمات على طرف اللسان كثيرة, و لكن الأفكار و التساؤلات في الرأس أكثر. لقد دهمته المصيبة على غرة , و ها هو الآن لا يستطيع أن يفيق و يثوب إلى رشده و يفهم. كان يعيش حتى الآن بلا هموم , عيشة ساكنة , في غيبوبة ثملة , لا يدري ما الحزن و ما الفرحة , و فجأة أصبح يحس الآن في صدره بألم رهيب. لقد وجد هذا الكسول اللامبالي و السكير نفسه فجأة و بلا مقدمات في وضع رجل مشغول, مهموم , متعجل , بل و رجل يصارع الطبيعة.
و يذكر الخراط أن مصيبته بدأت بالأمس مساء, فعندما عاد إلى البيت, ثملا كالعادة , و راح بحكم العادة القديمة يسب و يلوح بقبضتيه, نظرت العجوز إلى زوجها الهائج كما لم تنظر إليه أبدا من قبل. كانت نظرة عينيها الهرمتين في العادة معذبة , مستكينة , كنظرة الكلب الذي يضربونه كثيرا و يطعمونه قليلا. أما في المساء فكانت نظراتها صارمة و ثابتة كنظرة القديسين في الأيقونات أو الأموات. و من هاتين العينين الغريبتين اللتين لا تبشران بخير بدأت المصيبة. و أسرع الخراط المصعوق إلى جاره يسأله عن حصانه , و ها هو الآن يحملها إلى المستشفى , على أمل أن يعيد بافل ايفانيتش بمساحيقه و مراهمه إلى العجوز نظراتها السابقة.
-اسمعي يا متريونا .. إذا سألك بافل إيفانيتش هل ضربتك أم لا , قولي: أبدا ! و لن أضربك بعد, أقسم لك بالصليب. و هل كنت أضربك عمدا ؟ أبدا, هكذا , بلا داع. أنا أعطف عليك يا متريونا. و لو كان غيري في مكاني لما اهتم. أما أنا فها أنذا أحملك, و أبذل جهدي.
-أوه يا لها من عاصفة ! حكمتك يا رب ! اللهم الطف بنا حتى لا نضل الطريق .. ماذا عن جنبك هل يؤلمك ؟ لماذا لا تردين يا متريونا ؟ .. إنني أسألك : هل جنبك يؤلمك ؟ لماذا لا تردين يا متريونا ؟ إنني أسألك هل جنبك يؤلمك ؟
و يبدو له غريبا أن الثلج لا يذوب عن وجه العجوز, و الغريب أيضا أن وجهها ذاته قد إستطال بصورة خاصة و اكتسب لوناَ رمادياً شاحباً عكراً كالشمع, و أصبح صارماَ جداَ.
و يدمدم الخراط :
-يا لك من حمقاء ! أنا أحدثك من صميم قلبي, يشهد الله و أنت .. هذا .. يا لك حمقاء ! اسمعي و إلا فلن أحملك إلى بافل إيفانيتش !
و يرخي الخياط اللجام و يستغرق في التفكير. و لا يجرؤ على النظر إلى العجوز .. هذا مخيف ! و من المخيف أيضا أن يوجه لها سؤالا فلا يتلقى الجواب. و أخيرا , و لكي يقطع الشك باليقين , يتلمس ذراع العجوز الباردة دون أن يلتفت إليها. و تسقط الذراع المرفوعة كجلدة السوط.
-إذن فقد ماتت ! يا للمصيبة !
و يبكي الخراط. لا من الأسى ماهو بقدر الحنق. و يفكر : ما أسرع ما يجري كل شيئ في هذه الدنيا ! ما إن بدأت مصيبته حتى حلت النهاية . و لم يكد يعيش مع عجوزه , و يصارحها بما في قلبه , و يعطف عليها حتى ماتت. لقد عاش معها أربعين عاما, و لكن هذه الأعوام الأربعين مرت و كأنها ملفعة بالضباب. و من خلف سحب الثمل و العراك و الفاقة لم يكن ثمة إحساس بالحياة. و كأنها نكاية به ماتت العجوز في تلك اللحظة التي أحس فيها أنه يعطف عليها, و لا يقوى على الحياة بدونها, و مخطئ في حقها بصورة رهيبة.
و يتذكر الخراط :
-لقد كانت تتسول ! أنا الذي أرسلتها تسأل الناس خبزا, يا للمصيبة. هذه الحمقاء كان ينبغي أن تعيش عشر سنوات أخرى, و إلا فربما تظن أنني هكذا بالفعل. يا إلهي, إلى أي شيطان أمضي الآن ؟ ينبغي لي دفنها لا علاجها. "هيا,هيا , دوري."
ويدير الخراط الزحافة عائدا بها, و ينهال بكل قوته على الفرس بالسوط. و مع كل لحظة يزداد الطريق سوء. الآن لم يعد قوس الحصان مرئيا على الإطلاق. و أحيانا تدوس الزحافة على شجرة شوح صغيرة, فيخدش هذا الشيء المظلم أيدي الخراط, و يمر بمحاذاة عينيه, ثم يصبح مجال الرؤية من جديد أبيض مدوّما.
و يفكر الخراط :" آه لو تبدأ الحياة من جديد". و يتذكر أن متريونا كانت منذ أربعين عاما شابة جميلة مرحة, من بيت غني. و قد زوجوها منه إذ أغرتهم مهارته كأسطى. و كانت كل المقومات متوفرة لحياة طيبة, و لكن المصيبة أنه منذ أن شرب حتى ثمل بعد حفلة العرس, و تمدد فوق الفرن, فكأنما هو لم يستيقظ حتى الآن. إنه يذكر حفلة العرس, أما ما حدث بعد العرس فلا يذكر شيئا منه على الإطلاق. اللهم إلا أنه كان يشرب و يرقد و يتعارك. و هكذا ضاعت الأعوام الأربعون.
و تبدأ السحب الثلجية البيضاء في التحول شيئا فشيئا إلى اللون الرمادي. و يحل الغسق.
فجأة يستدرك الخراط نفسه:
-إلى أين أنت ذاهب؟ ينبغي دفنها بينما أذهب بها إلى المستشفى , كأنما جننت !
و يدير الخراط الزحافة مرة أخرى, و ينهال من جديد على الفرس. و تستجمع الفرس كل قواها, و تركض بخبب قصير و هي تشخر. و يضربها الخراط بالسوط على ظهرها المرة تلو المرة. و من خلفه تتردد صوت دقاتٍ ما, و رغم أنه لا يلتفت إلا أنه يعرف أن ذلك صوت ارتطام رأس المرحومة بالزحافة. بينما الجو يزداد ظلاما, و تصبح الريح أكثر حدة و برودة.
و يفكر الخراط :"لو تبدأ الحياة من جديد, لحصلت على عدة جديدة, و لتلقيت الطلبات. و لأعطيت النقود للعجوز.. نعم !"
و ها هو يفلت اللجام من يديه. و يبحث عنه, و يريد أن يرفعه و لكنه لا يستطيع. يداه لا تستجيبان له..
و يفكر:" سيان.. ستمضي الفرس بنفسها, فهي تعرف الطريق..فلأنم قليلا.. فالى أن تحين الجنازة و القداس, فلأنم قليلا".
و يغمض الخراط عينيه و ينعس. و بعد قليل يسمع أن الفرس توقفت. و يفتح عينيه فيرى أمامه شيئا مظلما يشبه المنزل أو كومة الدريس. يحاول أن ينزل من الزحافة ليستطلع الأمر, و لكن خدرا شديدا يستولي على جسده كله, حتى أنه يفضل أن يتجمد على أن يتحرك من مكانه, و يغيب في سبات قرير.
يستيقظ في غرفة كبيرة, بجدران مطلية. من النوافذ ينساب ضوء الشمس الساطع. و يرى الخراط أمامه أناساً, و أول ما يفكر فيه هو أن يبدو أمامهم رجلاً رزينا, حصيفا, فيقول :
-ينبغي إقامة قداس العجوز يا إخوان ! فلتخبرو أبانا ..
و لكن صوت يقاطعه :
-طيب, طيب. ارقد.
فيدهش الخراط حين يرى الدكتور أمامه:
-يا مولانا! بافل إيفانيتش ! يا صاحب السعادة ! يا راعينا !
و يود أن يقفز و يرتمي على قدمي الطبيب, و لكنه يشعر أن ساقيه و يديه لا تستجيب له.
-يا صاحب السعادة! أين ساقاي ؟ أين يداي ؟
-ودًع ساقيك و يديك. لقد تجمدت! مهلا .. مهلا لم تبك ؟ عشت حياتك فاحمد الله, تراك عشت ستين سنة, يكفيك هذا!
-مصيبة.. مصيبة يا صاحب السعادة ! أرجو المعذرة و السماح ! لو خمس أو ست سنوات أخرى ..
-لماذا ؟
-الفرس ليست لي, يجب أن أردها, و أدفن العجوز. ما أسرع ما يجري كل شيء في هذه الدنيا ! يا صاحب السعادة! بافل إيفانيتش ! علبة سجاير ممتازة من خشب البتولا الكاريلية! كرة كروكيت أخرطها ..
و يشيح الدكتور بيده و يخرج من الغرفة, و على الخراط السلام !
أنطون تشيخوف
1885
فقد تبددت كل طاقتها في سحب القوائم من الثلج العميق و في هز الرأس . كان الخراط متعجلا , و راح يقفز فزق مقعده بقلق و ينهال بالسوط كثيرا على ظهر الفرس , و هو يدمدم :
-لا تبكي يا متريونا .. اصبري قليلاً.ان شاء الله نصل إلى المستشفى, و على الفور يذهب منك هذا ال... سيعطيك بافل ايفانيتش قطرات, أو يأمر بحجمك, و ربما يتفضل فيدلكونك بالكحول , و عندئذ يذهب عن جنبك هذا ال... سيبذل بافل ايفانيتش جهده. سيصيح بنا, و يضرب الأرض بقدميه, لكنه سيبذل جهده. إنه سيد عظيم, عطوف, ربنا يعطيه الصحة... عندما نصل سيخرج على الفور من مسكنه و يبدأ قبل كل شيئ في السباب و الصياح:"كيف ؟ ما هذا ؟ لماذا ؟ لم تأت في الوقت المناسب؟ و هل أنا كلب حتى أضيِّع اليوم كله في مشاكلكم أيها الشياطين؟ لماذا لم تأت في الصباح؟ امش من هنا ! إياك أن تراك عيناي . تعال غدا" . فأقول له :"يا حضرة الدكتور ! يا بافل ايفانيتش! يا صاحب السعادة !" .
-هيا سيري, سيري عليك اللعنة ! هيا !
و ينهال الخراط على الفرس, و دون أن ينظر إلى زوجته العجوز يستطرد و هو يدمدم لنفسه :
"يا صاحب السعادة ! الله شاهد على ما أقول, بحق الصليب. لقد خرجت مع الفجر, و لكن كيف تصل في الموعد اذا كان الرب قد غضب و أرسل هذه العاصفة ؟ ها أنتم ترون بأنفسكم, حتى الفرس الأصيلة لا تقوى على السير , أما أنا فكما ترون ليس عندي فرس بل مصيبة !" فيعبس بافل إيفانيتش و يصيح :"أنا أعرفكم ! دوما تجدون لكم مخرجا! خاصة أنت يا جريشكا ,فأنا أعرفك منذ زمن, تراك الآن عرجت على الحانة خمس مرات !" فأقول له:"يا صاحب السعادة, هل تظنوني عربيدا أم كافرا ! العجوز تلفظ أنفاسها , تموت , و أنا أعرج على الحانات ! ماذا تقولون ! فليحل بها الخراب هذه الحانات !" .
عندئذ يأمر بافل ايفانيتش بنقلك إلى المستشفى . أما أنا فأرتمي على قدميه.. "يا بافل ايفانيتش يا صاحب السعادة ! نشكركم من صميم القلب. سامحنا نحن الحمقى, الملاعين , لا تؤاخذنا نحن الفلاحين ! نستحق منكم الطرد , و بدلا من ذلك تهتمون بنا و تلوثون أقدامكم في الثلج". و ينظر بافل ايفانيتش اليَ و كأنه يريد أن يضربني , و يقول :"بدلا من الإرتماء على قدمي كان من الأفضل أيها الأحمق, ألا تشرب الفودكا , و تعطف على عجوزك. إنك تستحق الجلد."
"عين الحقيقة يا بافل ايفانيتش, أستحق الجلد, أي والله أستحقه ! و كيف لا نرتمي على قدميكم إذا كنتم راعينا و أبانا؟ يا صاحب السعادة ! أقول لكم الحق, و الله شاهد , أبصقوا في عيني لو كنت أكذب عليكم : بمجرد أن تشفى زوجتي متريونا, و تقف على قدميها فسأفعل كل ما أمرتم به ! لو أردتم صنعت لكم علبة سجاير من خشب البتولا الكاريلية, أو كرات للكروكيت , و أستطيع أن أخرط كيلا مثل الأجنبية بالضبط. سأصنع من أجلكم أي شيئ, و لن آخذ منكم كوبيكا. في موسكو يأخذون أربع روبلات مقابل مثل هذه العلبة, أما أنا فلن آخذ كوبيكا" . فيضحك الدكتور و يجيب:"طيب, طيب مفهوم! إنما من المؤسف أنك سكير"..
-إنني أعرف يا أختي العجوز كيف أتعامل مع السادة. لا يوجد سيد لا أتفاهم معه. المهم أن يلطف ربنا و لا نضل الطريق. أوه يا للعاصفة ! تعمي العيون !
و يمضي الخراط في دمدمته بلا توقف. يتحرك لسانه آليا لكي يكبت و لو إلى حد ما إحساسه المرهق. و الكلمات على طرف اللسان كثيرة, و لكن الأفكار و التساؤلات في الرأس أكثر. لقد دهمته المصيبة على غرة , و ها هو الآن لا يستطيع أن يفيق و يثوب إلى رشده و يفهم. كان يعيش حتى الآن بلا هموم , عيشة ساكنة , في غيبوبة ثملة , لا يدري ما الحزن و ما الفرحة , و فجأة أصبح يحس الآن في صدره بألم رهيب. لقد وجد هذا الكسول اللامبالي و السكير نفسه فجأة و بلا مقدمات في وضع رجل مشغول, مهموم , متعجل , بل و رجل يصارع الطبيعة.
و يذكر الخراط أن مصيبته بدأت بالأمس مساء, فعندما عاد إلى البيت, ثملا كالعادة , و راح بحكم العادة القديمة يسب و يلوح بقبضتيه, نظرت العجوز إلى زوجها الهائج كما لم تنظر إليه أبدا من قبل. كانت نظرة عينيها الهرمتين في العادة معذبة , مستكينة , كنظرة الكلب الذي يضربونه كثيرا و يطعمونه قليلا. أما في المساء فكانت نظراتها صارمة و ثابتة كنظرة القديسين في الأيقونات أو الأموات. و من هاتين العينين الغريبتين اللتين لا تبشران بخير بدأت المصيبة. و أسرع الخراط المصعوق إلى جاره يسأله عن حصانه , و ها هو الآن يحملها إلى المستشفى , على أمل أن يعيد بافل ايفانيتش بمساحيقه و مراهمه إلى العجوز نظراتها السابقة.
-اسمعي يا متريونا .. إذا سألك بافل إيفانيتش هل ضربتك أم لا , قولي: أبدا ! و لن أضربك بعد, أقسم لك بالصليب. و هل كنت أضربك عمدا ؟ أبدا, هكذا , بلا داع. أنا أعطف عليك يا متريونا. و لو كان غيري في مكاني لما اهتم. أما أنا فها أنذا أحملك, و أبذل جهدي.
-أوه يا لها من عاصفة ! حكمتك يا رب ! اللهم الطف بنا حتى لا نضل الطريق .. ماذا عن جنبك هل يؤلمك ؟ لماذا لا تردين يا متريونا ؟ .. إنني أسألك : هل جنبك يؤلمك ؟ لماذا لا تردين يا متريونا ؟ إنني أسألك هل جنبك يؤلمك ؟
و يبدو له غريبا أن الثلج لا يذوب عن وجه العجوز, و الغريب أيضا أن وجهها ذاته قد إستطال بصورة خاصة و اكتسب لوناَ رمادياً شاحباً عكراً كالشمع, و أصبح صارماَ جداَ.
و يدمدم الخراط :
-يا لك من حمقاء ! أنا أحدثك من صميم قلبي, يشهد الله و أنت .. هذا .. يا لك حمقاء ! اسمعي و إلا فلن أحملك إلى بافل إيفانيتش !
و يرخي الخياط اللجام و يستغرق في التفكير. و لا يجرؤ على النظر إلى العجوز .. هذا مخيف ! و من المخيف أيضا أن يوجه لها سؤالا فلا يتلقى الجواب. و أخيرا , و لكي يقطع الشك باليقين , يتلمس ذراع العجوز الباردة دون أن يلتفت إليها. و تسقط الذراع المرفوعة كجلدة السوط.
-إذن فقد ماتت ! يا للمصيبة !
و يبكي الخراط. لا من الأسى ماهو بقدر الحنق. و يفكر : ما أسرع ما يجري كل شيئ في هذه الدنيا ! ما إن بدأت مصيبته حتى حلت النهاية . و لم يكد يعيش مع عجوزه , و يصارحها بما في قلبه , و يعطف عليها حتى ماتت. لقد عاش معها أربعين عاما, و لكن هذه الأعوام الأربعين مرت و كأنها ملفعة بالضباب. و من خلف سحب الثمل و العراك و الفاقة لم يكن ثمة إحساس بالحياة. و كأنها نكاية به ماتت العجوز في تلك اللحظة التي أحس فيها أنه يعطف عليها, و لا يقوى على الحياة بدونها, و مخطئ في حقها بصورة رهيبة.
و يتذكر الخراط :
-لقد كانت تتسول ! أنا الذي أرسلتها تسأل الناس خبزا, يا للمصيبة. هذه الحمقاء كان ينبغي أن تعيش عشر سنوات أخرى, و إلا فربما تظن أنني هكذا بالفعل. يا إلهي, إلى أي شيطان أمضي الآن ؟ ينبغي لي دفنها لا علاجها. "هيا,هيا , دوري."
ويدير الخراط الزحافة عائدا بها, و ينهال بكل قوته على الفرس بالسوط. و مع كل لحظة يزداد الطريق سوء. الآن لم يعد قوس الحصان مرئيا على الإطلاق. و أحيانا تدوس الزحافة على شجرة شوح صغيرة, فيخدش هذا الشيء المظلم أيدي الخراط, و يمر بمحاذاة عينيه, ثم يصبح مجال الرؤية من جديد أبيض مدوّما.
و يفكر الخراط :" آه لو تبدأ الحياة من جديد". و يتذكر أن متريونا كانت منذ أربعين عاما شابة جميلة مرحة, من بيت غني. و قد زوجوها منه إذ أغرتهم مهارته كأسطى. و كانت كل المقومات متوفرة لحياة طيبة, و لكن المصيبة أنه منذ أن شرب حتى ثمل بعد حفلة العرس, و تمدد فوق الفرن, فكأنما هو لم يستيقظ حتى الآن. إنه يذكر حفلة العرس, أما ما حدث بعد العرس فلا يذكر شيئا منه على الإطلاق. اللهم إلا أنه كان يشرب و يرقد و يتعارك. و هكذا ضاعت الأعوام الأربعون.
و تبدأ السحب الثلجية البيضاء في التحول شيئا فشيئا إلى اللون الرمادي. و يحل الغسق.
فجأة يستدرك الخراط نفسه:
-إلى أين أنت ذاهب؟ ينبغي دفنها بينما أذهب بها إلى المستشفى , كأنما جننت !
و يدير الخراط الزحافة مرة أخرى, و ينهال من جديد على الفرس. و تستجمع الفرس كل قواها, و تركض بخبب قصير و هي تشخر. و يضربها الخراط بالسوط على ظهرها المرة تلو المرة. و من خلفه تتردد صوت دقاتٍ ما, و رغم أنه لا يلتفت إلا أنه يعرف أن ذلك صوت ارتطام رأس المرحومة بالزحافة. بينما الجو يزداد ظلاما, و تصبح الريح أكثر حدة و برودة.
و يفكر الخراط :"لو تبدأ الحياة من جديد, لحصلت على عدة جديدة, و لتلقيت الطلبات. و لأعطيت النقود للعجوز.. نعم !"
و ها هو يفلت اللجام من يديه. و يبحث عنه, و يريد أن يرفعه و لكنه لا يستطيع. يداه لا تستجيبان له..
و يفكر:" سيان.. ستمضي الفرس بنفسها, فهي تعرف الطريق..فلأنم قليلا.. فالى أن تحين الجنازة و القداس, فلأنم قليلا".
و يغمض الخراط عينيه و ينعس. و بعد قليل يسمع أن الفرس توقفت. و يفتح عينيه فيرى أمامه شيئا مظلما يشبه المنزل أو كومة الدريس. يحاول أن ينزل من الزحافة ليستطلع الأمر, و لكن خدرا شديدا يستولي على جسده كله, حتى أنه يفضل أن يتجمد على أن يتحرك من مكانه, و يغيب في سبات قرير.
يستيقظ في غرفة كبيرة, بجدران مطلية. من النوافذ ينساب ضوء الشمس الساطع. و يرى الخراط أمامه أناساً, و أول ما يفكر فيه هو أن يبدو أمامهم رجلاً رزينا, حصيفا, فيقول :
-ينبغي إقامة قداس العجوز يا إخوان ! فلتخبرو أبانا ..
و لكن صوت يقاطعه :
-طيب, طيب. ارقد.
فيدهش الخراط حين يرى الدكتور أمامه:
-يا مولانا! بافل إيفانيتش ! يا صاحب السعادة ! يا راعينا !
و يود أن يقفز و يرتمي على قدمي الطبيب, و لكنه يشعر أن ساقيه و يديه لا تستجيب له.
-يا صاحب السعادة! أين ساقاي ؟ أين يداي ؟
-ودًع ساقيك و يديك. لقد تجمدت! مهلا .. مهلا لم تبك ؟ عشت حياتك فاحمد الله, تراك عشت ستين سنة, يكفيك هذا!
-مصيبة.. مصيبة يا صاحب السعادة ! أرجو المعذرة و السماح ! لو خمس أو ست سنوات أخرى ..
-لماذا ؟
-الفرس ليست لي, يجب أن أردها, و أدفن العجوز. ما أسرع ما يجري كل شيء في هذه الدنيا ! يا صاحب السعادة! بافل إيفانيتش ! علبة سجاير ممتازة من خشب البتولا الكاريلية! كرة كروكيت أخرطها ..
و يشيح الدكتور بيده و يخرج من الغرفة, و على الخراط السلام !
أنطون تشيخوف
1885