أقيم فى نادى «س» الاجتماعى حفل تنكرى لغرض خيرى.
كانت الساعة الثانية عشرة ليلا، وجلس المثقفون غير الراقصين ــ وكانوا خمسة ــ فى قاعة المطالعة إلى طاولة كبيرة ودسوا أنوفهم ولحاهم فى الجرائد وراحو يقرأون وينعسون، و«يفكرون» على حد تعبير المراسل المحلى لجرائد العاصمة، وهو سيد ليبرالى جدا.
وتناهت من الصالة العامة أنغام رقصة «فيوشكى»، ومن حين لآخر كان الخدم يهرولون بجوار الباب وهم يدقون عاليا بأقدامهم ويثيرون رنين الأوانى، بينما كان الصمت العميق يسود قاعة المطالعة.
وفجأة تردد صوت غليظ مكتوم بدا وكأنه صادر من المدفأة.
ــ يبدو أن المكان هنا سيكون مناسبا، تعالوا هنا يا أولاد! تعالوا، تعالوا!
وفتح الباب، ودخل قاعة المطالعة رجل عريض، ربعة، يرتدى حلة حوذى وقبعة بريش طاووس وقناعا، وتبعته سيدتان مقنعتان وخادم يحمل صينية، وكان على الصينية زجاجة ليكير منبعجة وثلاث زجاجات نبيذ أحمر وبضعة أكواب.
وقال الرجل:
ــ تعالوا! الجو هنا أبرد.. ضع الصينية على الطاولة.. أجلسن ياموزمزيلات! جى فو برى، أما أنتم ياسادة فلتفسحوا.. هيا من هنا! وتمايل الرجل وأزاج بيده عدة مجلات من على الطاولة.
ــ ضع هنا! أما أنتم أيها السادة القراء، فلتفسحوا، لا وقت هنا لقراءة الجرائد والسياسة.. دعوا عنكم هذا!
فقال أحد المثقفين وهو ينظر إلى صاحب القناع من خلال نظارته:
ــ الزم الهدوء من فضلك، هذه قاعة مطالعة وليس بوفيه.. ليس هذا مكانا للشراب.
ــ ولماذا ليس مكانا؟ هل الطاولة تتأرجح أم ربما السقف يتساقط؟ شىء عجيب حسنا.. لا وقت عندى للحديث! اتركوا الجرائد..
يكفيكم ما قرأتم.. أنتم هكذا أذكياء من اللازم، كما أنكم تتلفون أبصاركم وأهم ما فى الأمر أننى لا أريد.. انتهينا.
ووضع الخادم الصينية على الطاولة، وطوى الفوطة على ذراعه ووقف بجوار الباب، وشرعت السيدتان فورا فى تناول النبيذ الأحمر.
وقال الرجل ذو ريش الطاووس وهو يصب لنفسه ليكيرا:
ــ كيف يوجد أناس أذكياء يعتبرون الجرائد أفضل من هذه المشروبات أما أنا فأرى أيها السادة المحترمون أنكم تحبون الجرائد لأنكم لا تملكون ما تشربون به، أليس كذلك؟ ها.. ها!.. إنهم يقرأون! حسنا وما هو المكتوب هناك؟ أيها السيد ذو النظارة، أية وقائع تقرأ؟ ها.. ها! دعك من ذلك ! كفاك تمنعا، أشرب أفضل.
ونهض الرجل ذو ريش الطاووس وانتزع الجريدة من يد السيد ذى النظارة فامتقع هذا، ثم تضرج ونظر بدهشة إلى بقية المثقفين، ونظر هؤلاء إليه.
وانفجر قائلا:
ــ إنك تتجاوز حدودك ياسيدى المحترم، إنك تحول قاعة المطالعة إلى حانة، إنك تسمح لنفسك بالعربدة واختطاف الجرائد من الأيدى! لن أسمح لك! أنت لا تعرف مع من تتحدث ياحضرة المحترم! أنا جيستياكوف، مدير البنك!.
ــ فلتكن جيستياكوف! أما جريدتك فها هى ذى قيمتها..
ورفع الرجل الجريدة ومزقها قطعا.
ودمدم جيستياكوف مصعوقا:
ــ ما هذا ياسادة؟ هذا شىء غريب.. هذا.. هذا غير معقول.
فضحك الرجل قائلا:
ــ سيادته زعلان! آى، آى، أخفتنى! أقدامى ترتعش، اسمعوا أيها السادة المحترمون! كفى مزاحا. أنا لا أرغب فى الحديث معكم.. ولما كنت أريد أن أبقى هنا مع المزموزيلات على انفراد وأريد أن أمتع نفسى، لذلك أرجوكم ألا تحزنوا ولتخرجوا.. تفضلوا من هنا! ياسيد بيليبوخين اخرج من هنا فى ألف داهية! ما لك تقلب سحنتك؟ أقول لك اخرج يعنى تخرج! هيا عجل وإلا أهويت على قفاك!
فتساءل بيليبوخين صراف المحكمة وهو يحمر ويهز كتفيه:
ــ كيف! ما معنى هذا؟! أنا حتى لا أفهم.. شخص وقح يقتحم علينا المكان.. وفجأة يتفوه بهذه الأشياء!.
فصاح الرجل ذو ريش الطاووس غاضبا، ودق بقبضته على المائدة حتى تراقصت الأكواب على الصينية:
ــ ماذا تقول؟ وقح؟ لمن تقولها؟ أتظن أننى ما دمت فى القناع فبوسعك أن توجه لى مختلف الكلمات؟ يالك من مشاغب! اخرج من هنا أقول لك! يا مدير البنك، انكشح من هنا بالمعروف! اخرجوا جميعا، إياكم أن يبقى منكم لئيم هنا! غوروا فى ألف داهية!
فقال جيستياكوف الذى غامت نظارته من شدة الانفعال:
ــ حسنا، سنرى الآن! سأريك! إيه، استدع الشاويش المناوب!
وبعد دقيقة دخل شاويش صغير أحمر الشعر بشريط أزرق على ياقة سترته وهو يلهث من الرقص، وقال:
ــ تفضلوا بالخروج. ليس هذا مكانا للشرب! تفضلوا فى البوفيه.
وسأل الرجل ذو القناع:
ــ من أين جئت أنت؟ هل أنا دعوتك؟
ــ أرجو أن تخاطبنى باحترام، وتفضل بالخروج!
ــ اسمع يا عزيزى.. سأمهلك دقيقة.. وطالما أنت شاويش وشخصية مهمة، فلتسحب هؤلاء الممثلين من أيديهم، مزموزيلاتى لا يعجبهن وجود غرباء هنا.. يشعرن بالخجل، وأنا أريد مقابل نقودى أن يكن فى حالتهن الطبيعية.
وصاح جيستياكوف:
ــ يبدو أن هذا المأفون لا يفهم أنه ليس فى حظيرة، استدعوا يفسترات سبيريدونتش!
وترددت فى النادى:
ــ يفسترات سبيريدونتش أين يفسترات سبيريدونتش
وسرعان ما ظهر يفسترات سبيريدونتش، وهو عجوز يرتدى حلة شرطى، وصاح بصوت مبحوح وهو يبحلق بعينيه المرعبيتين ويحرك شواربه المصبوغة:
ــ تفضل بالخروج من هنا!
فقال الرجل وهو يقهقه من المتعة:
ــ آه، لقد أرعبتنى! أى والله أرعبتنى! أقسم لكم إننى لم أر شيئا رهيبا كهذا! شواربه كشوارب القط، وعيناه جاحظتان.. ها.. ها.. ها! ها.. ها.. ها!.
فصاح يفسترات سبيريدونتش بكل قواته واهتز بدنه:
ــ ممنوع الكلام! اخرج من هنا! سآمر بطردك! وارتفع فى قاعة المطالعة صخب لا مثيل له، كان يفسترات سبيريدونتش يصرخ ويدق بقدميه وقد أحمر كسرطان البحر، وكان جسيتياكوف يصرخ، وكان يبلويبوخين يصرخ، كان جميع المثقفين يصرخون، ولكن غطى على أصواتهم جميعا صوت الرجل ذو القناع، الغليظ الأجش، وبسبب الهرج العام توقف الرقص، وتقاطر الناس من الصالة إلى قاعة المطالعة.
ولكى يظهر يفسترات سبيريدونتش هيبته استدعى جميع رجال الشرطة الموجودين فى النادى، وجلس ليكتب محضرا.
فقال ذو القناع وهو يدس أصبعه تحت القلم:
ــ اكتب، اكتب، يالى من مسكين، ترى ماذا سيحدث لى الآن؟ يا لحظى البائس! حرام عليكم ما تفعلونه بيتيم مثلى! ها.. ها.. ها! حسنا، ماذا؟ هل محضرك جاهز؟ هل وقع الجميع؟ فلتنظروا الآن إذن!.. واحد.. اثنان.. ثلاثة!.
ونهض الرجل ومد قامته بطولها ونزع القناع عن وجهه، وبعد أن كشف وجهه الثمل وطاف بنـظره الجميع مستمتعا بما أحدث من تأثير، تهاوى على الكرسى وقهقه بفرح، وبالفعل كان التأثير الذى أحدثه غير عادى، تبادل المثقفون النظرات فى ارتباك وامتقعت وجوههم، وحك بعضهم قفاه، ويحشرج يفسترات سبيريدونتش كالشخص الذى ارتكب عفوا حماقة كبيرة.
لقد عرف الجميع فى هذا الرجل الهائج المليونير المحلى صاحب المصانع والمواطن العريق المحترم بيتيجوروف، المعروف بفضائحه وبأعماله الخيرية، وكما ذكرت الجريدة المحلية غير مرة، بحبه للمعرفة.
وبعد دقيقة من الصمت سأل بيتيجوروف:
ــ حسنا هل ستنصرفون أم لا؟
وخرج المثقفون من غرفة المطالعة على أطراف أصابعهم فى صمت، دون أن يتفوهوا بكلمة، فأوصد بيتيجوروف الباب خلفهم.
وبعد دقيقة كان يفسترات سبيرويدونتش يفح هامسا وهو يهز كتف الخادم الذى حمل الخمر إلى قاعة المطالعة:
ــ لقد كنت تعلم أنه بيتيجوروف، لماذا سكت؟
ــ أمرنى ألا أقول!
ــ أمر ألا يقول.. سأسجنك أيها الملعون شهرا وعندئذ ستعرف ما معنى «أمرنى ألا أقول» اخرج!.. ـ وقال مخاطبا المثقفين ــ وأنتم أيضا يا سادة ما أحلاكم.. اعلنوا العصيان! لم يكن فى استطاعتكم أن تخرجوا من قاعة المطالعة لعشر دقائق! حسنا، تحملوا إذن مسئولية ما صنعتم! آه ياسادة، ياسادة.. هذا لا يجوز..
وسار المثقفون فى النادى مقهورين، ضائعين، مذنبين يتهامسون ويتوقعون شرا.. وعندما عرفت زوجاتهم وبناتهم بالحادث أخلدن إلى السكون وتفرقن عائدات إلى بيوتهن، وتوقف الرقص.
وفى الساعة الثانية خرج بيتيجوروف من قاعة المطالعة، كان ثملا يترنح، وعندما دخل الصالة جلس بقرب الأوركسترا ونعس على أنغام الموسيقى، ثم أمال رأسه بحزن وعلا شخيره.
وأشاح الشاويشية بأيديهم للعازفين:
ــ لا تعزفوا! هس!.. يجور نيليتش نائم.
وسأل بيليبوخين وهو ينحنى على أذن المليونير:
ــ هل تأمرون بتوصيلكم إلى البيت يا يجور نيليتش؟
وندت عن شفتى بيتيجوروف حركة وكأنه يريد أن ينفخ ذبابة عن خده.
وعاد يبليبوخين يسأل:
ــ هلا تأمرون بتوصيلكم إلى البيت؟ أم باستدعاء العربة؟
ــ هه؟ من أنت؟.. ماذا تريد؟.
ــ أريد أن أوصلكم.. حان وقت النوم..
ــ أريد أن أذهب.. أوصلنى!
وتهلل بيليبوخين من الرضا وشرع ينهض بيتيجوروف. وأسرع إليه بقية المثقفين، وأنهضوا المواطن الأصيل المحترم وهم يبتسمون بسرور، وساروا به بحذر إلى العربة.
وقال جيستاكوف بمرح وهو يجلسه:
ــ لا يستطيع أن يضحك على جماعة كاملة إلا ممثل موهوب. أنا مأخوذ حقا يا يجور نيليتش! حتى الآن مازلت أضحك.. ها.. ها.. كنا نغلى ونتلمظ! ها.. ها! هل تصدقون؟ لم أضحك أبدا فى المسرح مثلما ضحكت اليوم، فكاهة بلا حدود! سأظل طول عمرى أذكر هذه الأمسية التى لا تنسى!.
وبعد أن أوصل المثقفون بيتيجوروف عاودهم المرح والاطمئنان.
وقال جيستياكوف وهو سعيد جدا:
ــ لقد مد لى يده عند الوداع، إذن فليس غاضبا..
فتنهد يفسترات سبيرويدونتش:
ــ يسمع منك ربنا! إنه رجل وغد، حقير، ولكنه محسن!.. لا يصح!.
كانت الساعة الثانية عشرة ليلا، وجلس المثقفون غير الراقصين ــ وكانوا خمسة ــ فى قاعة المطالعة إلى طاولة كبيرة ودسوا أنوفهم ولحاهم فى الجرائد وراحو يقرأون وينعسون، و«يفكرون» على حد تعبير المراسل المحلى لجرائد العاصمة، وهو سيد ليبرالى جدا.
وتناهت من الصالة العامة أنغام رقصة «فيوشكى»، ومن حين لآخر كان الخدم يهرولون بجوار الباب وهم يدقون عاليا بأقدامهم ويثيرون رنين الأوانى، بينما كان الصمت العميق يسود قاعة المطالعة.
وفجأة تردد صوت غليظ مكتوم بدا وكأنه صادر من المدفأة.
ــ يبدو أن المكان هنا سيكون مناسبا، تعالوا هنا يا أولاد! تعالوا، تعالوا!
وفتح الباب، ودخل قاعة المطالعة رجل عريض، ربعة، يرتدى حلة حوذى وقبعة بريش طاووس وقناعا، وتبعته سيدتان مقنعتان وخادم يحمل صينية، وكان على الصينية زجاجة ليكير منبعجة وثلاث زجاجات نبيذ أحمر وبضعة أكواب.
وقال الرجل:
ــ تعالوا! الجو هنا أبرد.. ضع الصينية على الطاولة.. أجلسن ياموزمزيلات! جى فو برى، أما أنتم ياسادة فلتفسحوا.. هيا من هنا! وتمايل الرجل وأزاج بيده عدة مجلات من على الطاولة.
ــ ضع هنا! أما أنتم أيها السادة القراء، فلتفسحوا، لا وقت هنا لقراءة الجرائد والسياسة.. دعوا عنكم هذا!
فقال أحد المثقفين وهو ينظر إلى صاحب القناع من خلال نظارته:
ــ الزم الهدوء من فضلك، هذه قاعة مطالعة وليس بوفيه.. ليس هذا مكانا للشراب.
ــ ولماذا ليس مكانا؟ هل الطاولة تتأرجح أم ربما السقف يتساقط؟ شىء عجيب حسنا.. لا وقت عندى للحديث! اتركوا الجرائد..
يكفيكم ما قرأتم.. أنتم هكذا أذكياء من اللازم، كما أنكم تتلفون أبصاركم وأهم ما فى الأمر أننى لا أريد.. انتهينا.
ووضع الخادم الصينية على الطاولة، وطوى الفوطة على ذراعه ووقف بجوار الباب، وشرعت السيدتان فورا فى تناول النبيذ الأحمر.
وقال الرجل ذو ريش الطاووس وهو يصب لنفسه ليكيرا:
ــ كيف يوجد أناس أذكياء يعتبرون الجرائد أفضل من هذه المشروبات أما أنا فأرى أيها السادة المحترمون أنكم تحبون الجرائد لأنكم لا تملكون ما تشربون به، أليس كذلك؟ ها.. ها!.. إنهم يقرأون! حسنا وما هو المكتوب هناك؟ أيها السيد ذو النظارة، أية وقائع تقرأ؟ ها.. ها! دعك من ذلك ! كفاك تمنعا، أشرب أفضل.
ونهض الرجل ذو ريش الطاووس وانتزع الجريدة من يد السيد ذى النظارة فامتقع هذا، ثم تضرج ونظر بدهشة إلى بقية المثقفين، ونظر هؤلاء إليه.
وانفجر قائلا:
ــ إنك تتجاوز حدودك ياسيدى المحترم، إنك تحول قاعة المطالعة إلى حانة، إنك تسمح لنفسك بالعربدة واختطاف الجرائد من الأيدى! لن أسمح لك! أنت لا تعرف مع من تتحدث ياحضرة المحترم! أنا جيستياكوف، مدير البنك!.
ــ فلتكن جيستياكوف! أما جريدتك فها هى ذى قيمتها..
ورفع الرجل الجريدة ومزقها قطعا.
ودمدم جيستياكوف مصعوقا:
ــ ما هذا ياسادة؟ هذا شىء غريب.. هذا.. هذا غير معقول.
فضحك الرجل قائلا:
ــ سيادته زعلان! آى، آى، أخفتنى! أقدامى ترتعش، اسمعوا أيها السادة المحترمون! كفى مزاحا. أنا لا أرغب فى الحديث معكم.. ولما كنت أريد أن أبقى هنا مع المزموزيلات على انفراد وأريد أن أمتع نفسى، لذلك أرجوكم ألا تحزنوا ولتخرجوا.. تفضلوا من هنا! ياسيد بيليبوخين اخرج من هنا فى ألف داهية! ما لك تقلب سحنتك؟ أقول لك اخرج يعنى تخرج! هيا عجل وإلا أهويت على قفاك!
فتساءل بيليبوخين صراف المحكمة وهو يحمر ويهز كتفيه:
ــ كيف! ما معنى هذا؟! أنا حتى لا أفهم.. شخص وقح يقتحم علينا المكان.. وفجأة يتفوه بهذه الأشياء!.
فصاح الرجل ذو ريش الطاووس غاضبا، ودق بقبضته على المائدة حتى تراقصت الأكواب على الصينية:
ــ ماذا تقول؟ وقح؟ لمن تقولها؟ أتظن أننى ما دمت فى القناع فبوسعك أن توجه لى مختلف الكلمات؟ يالك من مشاغب! اخرج من هنا أقول لك! يا مدير البنك، انكشح من هنا بالمعروف! اخرجوا جميعا، إياكم أن يبقى منكم لئيم هنا! غوروا فى ألف داهية!
فقال جيستياكوف الذى غامت نظارته من شدة الانفعال:
ــ حسنا، سنرى الآن! سأريك! إيه، استدع الشاويش المناوب!
وبعد دقيقة دخل شاويش صغير أحمر الشعر بشريط أزرق على ياقة سترته وهو يلهث من الرقص، وقال:
ــ تفضلوا بالخروج. ليس هذا مكانا للشرب! تفضلوا فى البوفيه.
وسأل الرجل ذو القناع:
ــ من أين جئت أنت؟ هل أنا دعوتك؟
ــ أرجو أن تخاطبنى باحترام، وتفضل بالخروج!
ــ اسمع يا عزيزى.. سأمهلك دقيقة.. وطالما أنت شاويش وشخصية مهمة، فلتسحب هؤلاء الممثلين من أيديهم، مزموزيلاتى لا يعجبهن وجود غرباء هنا.. يشعرن بالخجل، وأنا أريد مقابل نقودى أن يكن فى حالتهن الطبيعية.
وصاح جيستياكوف:
ــ يبدو أن هذا المأفون لا يفهم أنه ليس فى حظيرة، استدعوا يفسترات سبيريدونتش!
وترددت فى النادى:
ــ يفسترات سبيريدونتش أين يفسترات سبيريدونتش
وسرعان ما ظهر يفسترات سبيريدونتش، وهو عجوز يرتدى حلة شرطى، وصاح بصوت مبحوح وهو يبحلق بعينيه المرعبيتين ويحرك شواربه المصبوغة:
ــ تفضل بالخروج من هنا!
فقال الرجل وهو يقهقه من المتعة:
ــ آه، لقد أرعبتنى! أى والله أرعبتنى! أقسم لكم إننى لم أر شيئا رهيبا كهذا! شواربه كشوارب القط، وعيناه جاحظتان.. ها.. ها.. ها! ها.. ها.. ها!.
فصاح يفسترات سبيريدونتش بكل قواته واهتز بدنه:
ــ ممنوع الكلام! اخرج من هنا! سآمر بطردك! وارتفع فى قاعة المطالعة صخب لا مثيل له، كان يفسترات سبيريدونتش يصرخ ويدق بقدميه وقد أحمر كسرطان البحر، وكان جسيتياكوف يصرخ، وكان يبلويبوخين يصرخ، كان جميع المثقفين يصرخون، ولكن غطى على أصواتهم جميعا صوت الرجل ذو القناع، الغليظ الأجش، وبسبب الهرج العام توقف الرقص، وتقاطر الناس من الصالة إلى قاعة المطالعة.
ولكى يظهر يفسترات سبيريدونتش هيبته استدعى جميع رجال الشرطة الموجودين فى النادى، وجلس ليكتب محضرا.
فقال ذو القناع وهو يدس أصبعه تحت القلم:
ــ اكتب، اكتب، يالى من مسكين، ترى ماذا سيحدث لى الآن؟ يا لحظى البائس! حرام عليكم ما تفعلونه بيتيم مثلى! ها.. ها.. ها! حسنا، ماذا؟ هل محضرك جاهز؟ هل وقع الجميع؟ فلتنظروا الآن إذن!.. واحد.. اثنان.. ثلاثة!.
ونهض الرجل ومد قامته بطولها ونزع القناع عن وجهه، وبعد أن كشف وجهه الثمل وطاف بنـظره الجميع مستمتعا بما أحدث من تأثير، تهاوى على الكرسى وقهقه بفرح، وبالفعل كان التأثير الذى أحدثه غير عادى، تبادل المثقفون النظرات فى ارتباك وامتقعت وجوههم، وحك بعضهم قفاه، ويحشرج يفسترات سبيريدونتش كالشخص الذى ارتكب عفوا حماقة كبيرة.
لقد عرف الجميع فى هذا الرجل الهائج المليونير المحلى صاحب المصانع والمواطن العريق المحترم بيتيجوروف، المعروف بفضائحه وبأعماله الخيرية، وكما ذكرت الجريدة المحلية غير مرة، بحبه للمعرفة.
وبعد دقيقة من الصمت سأل بيتيجوروف:
ــ حسنا هل ستنصرفون أم لا؟
وخرج المثقفون من غرفة المطالعة على أطراف أصابعهم فى صمت، دون أن يتفوهوا بكلمة، فأوصد بيتيجوروف الباب خلفهم.
وبعد دقيقة كان يفسترات سبيرويدونتش يفح هامسا وهو يهز كتف الخادم الذى حمل الخمر إلى قاعة المطالعة:
ــ لقد كنت تعلم أنه بيتيجوروف، لماذا سكت؟
ــ أمرنى ألا أقول!
ــ أمر ألا يقول.. سأسجنك أيها الملعون شهرا وعندئذ ستعرف ما معنى «أمرنى ألا أقول» اخرج!.. ـ وقال مخاطبا المثقفين ــ وأنتم أيضا يا سادة ما أحلاكم.. اعلنوا العصيان! لم يكن فى استطاعتكم أن تخرجوا من قاعة المطالعة لعشر دقائق! حسنا، تحملوا إذن مسئولية ما صنعتم! آه ياسادة، ياسادة.. هذا لا يجوز..
وسار المثقفون فى النادى مقهورين، ضائعين، مذنبين يتهامسون ويتوقعون شرا.. وعندما عرفت زوجاتهم وبناتهم بالحادث أخلدن إلى السكون وتفرقن عائدات إلى بيوتهن، وتوقف الرقص.
وفى الساعة الثانية خرج بيتيجوروف من قاعة المطالعة، كان ثملا يترنح، وعندما دخل الصالة جلس بقرب الأوركسترا ونعس على أنغام الموسيقى، ثم أمال رأسه بحزن وعلا شخيره.
وأشاح الشاويشية بأيديهم للعازفين:
ــ لا تعزفوا! هس!.. يجور نيليتش نائم.
وسأل بيليبوخين وهو ينحنى على أذن المليونير:
ــ هل تأمرون بتوصيلكم إلى البيت يا يجور نيليتش؟
وندت عن شفتى بيتيجوروف حركة وكأنه يريد أن ينفخ ذبابة عن خده.
وعاد يبليبوخين يسأل:
ــ هلا تأمرون بتوصيلكم إلى البيت؟ أم باستدعاء العربة؟
ــ هه؟ من أنت؟.. ماذا تريد؟.
ــ أريد أن أوصلكم.. حان وقت النوم..
ــ أريد أن أذهب.. أوصلنى!
وتهلل بيليبوخين من الرضا وشرع ينهض بيتيجوروف. وأسرع إليه بقية المثقفين، وأنهضوا المواطن الأصيل المحترم وهم يبتسمون بسرور، وساروا به بحذر إلى العربة.
وقال جيستاكوف بمرح وهو يجلسه:
ــ لا يستطيع أن يضحك على جماعة كاملة إلا ممثل موهوب. أنا مأخوذ حقا يا يجور نيليتش! حتى الآن مازلت أضحك.. ها.. ها.. كنا نغلى ونتلمظ! ها.. ها! هل تصدقون؟ لم أضحك أبدا فى المسرح مثلما ضحكت اليوم، فكاهة بلا حدود! سأظل طول عمرى أذكر هذه الأمسية التى لا تنسى!.
وبعد أن أوصل المثقفون بيتيجوروف عاودهم المرح والاطمئنان.
وقال جيستياكوف وهو سعيد جدا:
ــ لقد مد لى يده عند الوداع، إذن فليس غاضبا..
فتنهد يفسترات سبيرويدونتش:
ــ يسمع منك ربنا! إنه رجل وغد، حقير، ولكنه محسن!.. لا يصح!.