- ” سيدي الرحيم، كن أكثر عطفاً للاستماع إلي رجلٍ فقيرٍ جائع. لم أذق طعاماً منذ ثلاثة أيام، وليست لديَّ خمسة كوبيكات لأقضي ليلتي في النزل. أقسم بالله، طيلة خمسة أعوام كنت مديراً لمدرسة وخسرت وظيفتي بسبب مكيدة دبّرها لي” زمستفو” . كنتُ ضحية شهادة غادرة. وها أنت تراني خارج مكاني المفترض، منذ عام.”
نظر” سكفورتسوف” محامي مدينة بطرسبورغ إلي المتحدث بمعطفه الأزرق الداكن الموحل والمتهريء، إلي عينيه المترقرقتين بتأثير خمرة عبّها، إلي البقع الحمر علي وجنتيه. خامرهُ ظن أنه رأي هذا الرجل من قبل.
- ” الآن عُرِضَ عليَّ عملٌ في مقاطعة كالوكا”. .. واصل الشحاذ حديثه” لكن ليست لديَّ الوسيلة للوصول إلي هناك.. لذا بكل تهذيب أرجو مساعدتكم.. اشعر بالخجل لمناشدتكم، لكن الظروف تجبرني علي ذلك”. .
طالعَ سكورتسوف حذائي الشحاذ. كانت الفردة الأولي مسطحة تشبه حذاءً عاديّاً فيما الأخري لها عنق يرتفع إلي وسط الساق.. وفجأة تذكّر:
- ” اسمع! يوم قبل البارحة قابلتك في شارع سادوفوي”. .. قال المحامي” هناك لم تقل لي انك مدير مدرسة قروية ؛ بل قلت أنك طالب فُصلتَ من الدراسة، أتتذكر ذلك؟” .
- ” كـ…لا. كلا. ذلك لا يمكن أن يحصل!” راح الشحاذ يدمدم بارتباك”. أنا مدير مدرسة قروية , وإذا رغبت أظهر لك وثائق تثبت ذلك”.
- كذبك هذا يكفي! ادعيت انك طالبٌ، وأخبرتني حتي بأسباب فصلك.. أتتذكر؟”
احتدمت أعماق سكفورتسوف وبدت سيماء احتقار علي وجهه تجاه الرجل الرث.
- هذه وضاعة”. . صرخ غاضباً” هذا خِداع! سأسلّمُكَ إلي البوليس. اللعنة عليك!.. أنت فقير وجائع، لكن ليس لك الحق في أن تكذب بلا حياء!” .
امسك الرجل الرث قبضة الباب كما لو كان طيراً يقع في فخ وراح يطالع ما حول القصر بيأس.
_ أنا… أنا لستُ كذاباً”. دمدمَ ” لدي من المستمسكات ما يثبت ذلك”.
- مَن يصدقُك؟” استمر سكفورتسوف ولما يزل ساخطاً” أنت تستغل عاطفة الناس مسيئاً لمدراء المدارس الريفية وللطلبة…. إنها وضاعة شديدة، ودناءة، وقذارة !.. استغلالك هذا مثيرٌ للاشمئزاز.
اعتري سكفورتسوف غضب عارم متوجها بالتوبيخ الخالي من الرحمة إلي الشحاذ بينما انبثقت في نفس الشحاذ غطرسة كاذبة معبرة عن مقت واشمئزاز، مُظهراً استياءً بما يحبه سكفورتسوف وما يختزنه من شفقة ومشاعر قلبيه وعاطفة تجاه شخصه غير السعيد. بكذبه الصارخ، بهجومه الغادر علي الحنو الذي يمتلكه الشخص دنس الشحاذ الصدقة التي كان من المقرر أن يمنحها للمساكين دون خشية في قلبه. في بداية الأمر دافع عن نفسه واحتج، مصاحباً احتجاجه بقَسمٍ، لكنه غرق بعدها في الصمت مطأطئاً رأسه، محاولا السيطرة علي خجله:
- ” سيدي”. واضعاً يده علي قلبه” أنا حقّاً كنتُ… كاذباً! أنا لستُ طالباً ولا مديراً لمدرسة ريفية. كل ذلك مجرد اختراع منّي! لقد كنتُ سابقاً في الجوقة الروسية لكني طُردتُ بسبب إدماني علي الخمر. لكن ماذا أفعل؟ صدقني والله، لا استطيع العيش بدون الكذب.. عندما أقول الحقيقة لا أحد سيساعدني. الحقيقة سيموت الإنسان من الجوع، وسيتجمد إن لم ينم ليله في النزل!.. ما قلته صحيح ؛ افهم ذلك، لكن… ماذا عليَّ أن أفعل؟”
- ” ماذا عليك أن تفعل؟ تسأل ماذا عليك أن تفعل؟” صرخ سكورتسوف، مقترباً منه” اعمل.. هذا ما عليك فعله! يجب أن تعمل!” .
- ” أعمل… أعرف ذلك. لكن أين احصل علي العمل؟”
- هراء.. أنت شاب قوي ومتعافي، وبإمكانك الحصول علي أي عملٍ إن أردت. لكنك تعرف في قرارة نفسك أنك متكاسل، مُدلل، سكّير! تفح الفودكا مثلما يفح” قوري” الشاي ! أصبحتَ فاسداً ويغور خطؤك حتي نخاع عظامك، لم تعُد تصلح لشيء، فقط للشحاذة والكذب!.. لو أنك سعيت بلطف للحصول علي عمل لحصلتَ عليه في مكتب مثلاً، في الجوقة الروسية، أو كصانع بيليارد حيث ستحصل علي مرتّب فلا جهداً كبيراً ستبذل. لكن هل ترغب أن تشتغل عاملاً يدويّاً؟ سوف أضمن لك هذا، لن تكون حمّال بيت أو عامل مصنع. أنت أنبل من أن تكون كذلك.
- ” أحقّاً ما تقول؟” . تكلم الشحاذ مُبدياً ابتسامة سخرية ” كيف أكون عاملاً يدويّاً؟” فات الوقت الذي أكون فيه عامل في دكان. والعمل في التجارة يستدعي أن تبدأ المهنة وأنت صغير.. ولا احد سيشغلني حمّال بيت لأني لست من هذا الصنف… لم أكن قد عملت في مصنع مسبقاً أما التجارة فيجيدها شخص يعرفها.
- هُراء! دوماً تبحث عن مبررات التهرب. ألا ترغب أن تكون قاطع أخشاب؟”
- ” لا ارفض ذلك، لكن عمّال قطع الأخشاب أنفسهم الآن عاطلون عن العمل”.
- أوه، كل العاطلين يجادلون بمثل ذلك. فحالما يُعرض عليك مقترح ترفضه.. هل ترغب بأن تكون قاطع أخشاب عندي؟”
- بالتأكيد أرغب.
- جيد جداً.. سوف نري… ممتاز. سنري” بعصبية وامضة وبلا سرور متخابث فرك سكفورتسوف كفّيه مستدعياً طبّاخته من المطبخ.
- ” تعالي، يا أولغا.”.. قال ” خذي هذا السيد إلي السقيفة ودعيه يقطع لنا بعض الأخشاب”.
هز الشحاذ كتفيه بحركة يريد منها إظهار لا مبالاته رغم ارتباكه.وبلا رغبةٍ تبع الطبّاخة. كان واضحاً من تصرفه أنه وافق أن يذهب ويقطع الأخشاب لا لأنه جائع ويبغي كسبَ مالٍ بل لأنه ببساطة يبغي احترام الذات وتجنّب خزيٍ سيلحق به إن رفض عرض الرجل المحامي ؛ كذلك لأنه أعطي كلمته في الرغبة بالعمل. ومن الواضح أيضاً أن موافقته جاءت جراء معاناة صنعها له الإدمان علي شرب الفودكا ما جعله عليلاً، يبعده الدوار عن كل مَيلٍ للعمل.
أسرع سكفورتسوف إلي غرفة الطعام. ومن النافذة المطلة علي الفناء استطاع مشاهدة سقيفة الخشب وكل شيء يحدث في الفناء. منتصباً عند النافذة أبصر الطباخة والشحاذ يظهران علي الطريق الخلفي في الفناء ويتجهان عبر الطريق الثلجي الموحل إلي سقيفة الخشب. فتحت أولغا الباب بطريقة عنيفة.
- ” علي الأغلب قطعنا علي المرأة تناولها القهوة.” فكّر سكفورتسوف” أي مخلوقة محرومة هذه المرأة!”
شاهد مدير المدرسة المزيف والطالب المزيف يجلس علي كتلة من الخشب، محنياً خديه الأحمرين علي قبضتيه، غارقاً في التفكير. رمت الطباخة فأساً عند قدميه باصقةً بغضب علي الأرض. غضب تظهره تعبيرات شفتيها، منهالةً عليه بالسباب. سحب الشحاذ زند الخشب إليه بلا رغبة. ثبَّته بين قدميه، وبحياء مرَّر الفأس عبر الزند، فتداعي الزند وسقط. سحبه إليه ثمَ نفخ علي كفيّه المتجمدين ؛ ومرّةً أخري مرر الفأس عليه بحذر خشية أن يضرب حذاءه أو يقطع أصابع قدميه. سقط الزند مرةً أخري.
تبدد غضب سكفورتسوف تلك اللحظة وهو يرمق هذا المشهد. شعر بالخجل والحسرة معتقداً أنه اجبر المدلل السكير الذي قد يكون مريضاً من الصعب عليه أداء عمل صعب كهذا، في يوم بارد كهذا.
- ” لا تبالي. دعه يستمر في عمله…..” فكّر متحركاً من غرفة الطعام إلي المكتبة” افعل ذلك لصالحه!”
بعد مرور ساعةٍ ظهرت أولغا معلنةً إكمال تقطيع الخشب.
- إذاً. أعطه نصف روبل.”.. قال سكفورتسوف.” إذا رغب دعيه يأتي ويقطع الخشب بداية كل شهر….. سيكون ثمّة عمل دائم له”.
في بداية الشهر ظهر الشحاذ، ومرة أخري حصل علي نصف روبل علي الرغم من أنه لم يبق طويلاً. منذ ذلك الوقت ظل يواصل المجيء فيجد العمل ينتظره. بعض الأحيان كان يقوم بمهمة كنس وإزاحة الثلج من علي كومة القش أو تنظيف السقيفة. وفي عملٍ آخر يقوم بضرب السجّاد والافرشة. صار دائما يستلم ثلاثين أو أربعين كوبيكا لقاء عمله، ولم يعُد يتلقي بنطلوناً قديماً في أية مناسبة.
عندما انتقل سكفورتسوف طُلـِب منه المساعدة في حزم ونقل الأثاث. في المناسبة تلك كان الشحاذ وقوراً وعابساً وصامت. نادراً ما يمس الأثاث، ويمشي برأسٍ متدلٍّ خلف العربات حاملة الأثاث ولم يظهر أنه منشغل بالمهمة الموكلة إليه، يرتجف من البرد فحسب، ويسيطر علي ارتباكٍ جرّاء ضحك العمال المرافقين للعربة علي كسله وخموله وسترته الرثّة التي كانت يوماً ما تعود لرجلٍ نبيل.
- ” حسنا.. أري أن كلماتي أثَّرت به”. قال سكفورتسوف وهو يناوله روبلاً” هذا مقابل عملك. أري انك غير ثمل ولا نافرٍ من العمل.. ما اسمك؟”
- ” لوشكوف.”
- أستطيع أن أوفر لك عملاً أفضل غير منفر، يا لوشكوف.. هل تستطيع الكتابة؟”
- ” نعم سيدي”.
- ” إذاً اذهب غداً بهذه التوصية إلي زميلٍ لي وسيعطيك بعض النسخ لنسخها. اعمل بجد ولا تشرب، ولا تنسي أيضاً ما قلته لك.. إلي اللقاء”. .
سُرَّ سكفورتسوف لوضعه ليشكوف في الطريق المستقيم، رابتاً علي كتفه بلطف ومصافحاً له عند المغادرة.
تناول ليشكوف الرسالة وغادر.. ومنذ ذلك الوقت لم يحضر إلي الفناء الخلفي لبيت سكفورتسوف أبداً.
عامان مرا علي ذلك.
وفي احد الأيام ؛ وفيما كان سكفورتسوف واقفاً عند مكتب بيع بطاقات الدخول إلي المسرح يهم بدفع المبلغ المستحق لشراء تذكرة أبصر إلي جانبه رجلاً ضئيل الجسم بياقة فروها من جلد الحمل، يعتمر قبعة رثّة من جلد القطط. بجبن طلب الرجل من قاطع التذاكر تذكرةً، دافعاً بعض الكوبيكات.
- ” ألست أنت ليشكوف؟” توجه سكفورتسوف بالسؤال إلي الرجل الضئيل مدركاً أنه قاطع الأخشاب السابق.” حسنا، ماذا تعمل الآن؟ هل تسير الأمور علي ما يرام؟”
- ” جيدة جداً.. أعمل الآن في مكتب كاتب العدل. واكسب خمس وثلاثين روبلاً ” .
- ” حسنا.. شكراً لله، أنا مبتهج لأجلك. سعيد، سعيد جداً يا ليشكوف. أتعرف أنك بطريقة ما مثل ولدي. فأنا مَن أرشدك إلي الدرب الصواب. هل تتذكّر أي توبيخ كنت أوجهه إليك؟ كنت ذلك الوقت تغوص خجلاً في الأرض.. حسناً. أشكرك يا عزيزي علي تذكرك لنصائحي”. .
- ” شكراً لك أيضاً” قال ليشكوف” لو لم أجيء إليك يوماً لربما بقيت لحد هذا اليوم أدعي بأني مدير مدرسة أو طالب. نعم في بيتك تمَّ إنقاذي وتسلقي خروجاً من الحفرة.
- ” أنا مسرور. مسرور جداً” .
- شكراً لكلماتك العطوفة ومآثرك. ما قلته ذلك اليوم رائعاً. أقرُّ بحسن صنيعك وصنيع طبّاختك. ليباركها الله. امرأة ذات قلب نبيل. ما قلته تلك الأيام كان رائعاً. أنا طبعاً ممتنُّ لك طالما أنا علي قيد الحياة لكن أولغا طباختك هي التي أنقذتني.
- ” كيف ذلك؟”
- ” كيف؟.. كنتُ ما أن أجيء إليك لتقطيع الخشب حتي تبدأ هي:” آ، يا سكران ! يا تمبَّل، يا مَن لم يأخذك الموت لحد الآن!” . بعدها تخطو لتقف قبالتي راثيةً، محدقة في وجهي ونائحة:” أنتَ شخص غير محظوظ! لا تملك شيئاً من السعادة التي في هذا العالم، وفي المقابل سيصلونَك في النار السعير أيها السكّير المسكين! أنت مخلوق فقير وحزين!”. لقد كانت دائماً تخاطبني بهذا الأسلوب. كم كانت تُقلق نفسها َ، وكم مرة ذرفت الدموع لأجلي، لا أستطيع أن أخبرك َ. لقد أثَّرت بي كثيراً فجعلتني أتغيّر. كانت تتولي تقطيع الخشب عوضاً عني. هل تدري يا سيدي كم تغيّرتُ، وكيف تخلّيتُ عن الشرب. لا استطيع الشرح. فقط اعرف ما كانت تقوله، والسلوك النبيل الذي سلكَته في تصرفها معي فدفعني إلي التحول من أعماق روحي. لن أنسي حسن صنيعها… أنه وقت الدخول. الجرس علي وشك أن يُضرب”.
انحني لوشكوف احتراماً، وتحرك صوب صالة العرض
نظر” سكفورتسوف” محامي مدينة بطرسبورغ إلي المتحدث بمعطفه الأزرق الداكن الموحل والمتهريء، إلي عينيه المترقرقتين بتأثير خمرة عبّها، إلي البقع الحمر علي وجنتيه. خامرهُ ظن أنه رأي هذا الرجل من قبل.
- ” الآن عُرِضَ عليَّ عملٌ في مقاطعة كالوكا”. .. واصل الشحاذ حديثه” لكن ليست لديَّ الوسيلة للوصول إلي هناك.. لذا بكل تهذيب أرجو مساعدتكم.. اشعر بالخجل لمناشدتكم، لكن الظروف تجبرني علي ذلك”. .
طالعَ سكورتسوف حذائي الشحاذ. كانت الفردة الأولي مسطحة تشبه حذاءً عاديّاً فيما الأخري لها عنق يرتفع إلي وسط الساق.. وفجأة تذكّر:
- ” اسمع! يوم قبل البارحة قابلتك في شارع سادوفوي”. .. قال المحامي” هناك لم تقل لي انك مدير مدرسة قروية ؛ بل قلت أنك طالب فُصلتَ من الدراسة، أتتذكر ذلك؟” .
- ” كـ…لا. كلا. ذلك لا يمكن أن يحصل!” راح الشحاذ يدمدم بارتباك”. أنا مدير مدرسة قروية , وإذا رغبت أظهر لك وثائق تثبت ذلك”.
- كذبك هذا يكفي! ادعيت انك طالبٌ، وأخبرتني حتي بأسباب فصلك.. أتتذكر؟”
احتدمت أعماق سكفورتسوف وبدت سيماء احتقار علي وجهه تجاه الرجل الرث.
- هذه وضاعة”. . صرخ غاضباً” هذا خِداع! سأسلّمُكَ إلي البوليس. اللعنة عليك!.. أنت فقير وجائع، لكن ليس لك الحق في أن تكذب بلا حياء!” .
امسك الرجل الرث قبضة الباب كما لو كان طيراً يقع في فخ وراح يطالع ما حول القصر بيأس.
_ أنا… أنا لستُ كذاباً”. دمدمَ ” لدي من المستمسكات ما يثبت ذلك”.
- مَن يصدقُك؟” استمر سكفورتسوف ولما يزل ساخطاً” أنت تستغل عاطفة الناس مسيئاً لمدراء المدارس الريفية وللطلبة…. إنها وضاعة شديدة، ودناءة، وقذارة !.. استغلالك هذا مثيرٌ للاشمئزاز.
اعتري سكفورتسوف غضب عارم متوجها بالتوبيخ الخالي من الرحمة إلي الشحاذ بينما انبثقت في نفس الشحاذ غطرسة كاذبة معبرة عن مقت واشمئزاز، مُظهراً استياءً بما يحبه سكفورتسوف وما يختزنه من شفقة ومشاعر قلبيه وعاطفة تجاه شخصه غير السعيد. بكذبه الصارخ، بهجومه الغادر علي الحنو الذي يمتلكه الشخص دنس الشحاذ الصدقة التي كان من المقرر أن يمنحها للمساكين دون خشية في قلبه. في بداية الأمر دافع عن نفسه واحتج، مصاحباً احتجاجه بقَسمٍ، لكنه غرق بعدها في الصمت مطأطئاً رأسه، محاولا السيطرة علي خجله:
- ” سيدي”. واضعاً يده علي قلبه” أنا حقّاً كنتُ… كاذباً! أنا لستُ طالباً ولا مديراً لمدرسة ريفية. كل ذلك مجرد اختراع منّي! لقد كنتُ سابقاً في الجوقة الروسية لكني طُردتُ بسبب إدماني علي الخمر. لكن ماذا أفعل؟ صدقني والله، لا استطيع العيش بدون الكذب.. عندما أقول الحقيقة لا أحد سيساعدني. الحقيقة سيموت الإنسان من الجوع، وسيتجمد إن لم ينم ليله في النزل!.. ما قلته صحيح ؛ افهم ذلك، لكن… ماذا عليَّ أن أفعل؟”
- ” ماذا عليك أن تفعل؟ تسأل ماذا عليك أن تفعل؟” صرخ سكورتسوف، مقترباً منه” اعمل.. هذا ما عليك فعله! يجب أن تعمل!” .
- ” أعمل… أعرف ذلك. لكن أين احصل علي العمل؟”
- هراء.. أنت شاب قوي ومتعافي، وبإمكانك الحصول علي أي عملٍ إن أردت. لكنك تعرف في قرارة نفسك أنك متكاسل، مُدلل، سكّير! تفح الفودكا مثلما يفح” قوري” الشاي ! أصبحتَ فاسداً ويغور خطؤك حتي نخاع عظامك، لم تعُد تصلح لشيء، فقط للشحاذة والكذب!.. لو أنك سعيت بلطف للحصول علي عمل لحصلتَ عليه في مكتب مثلاً، في الجوقة الروسية، أو كصانع بيليارد حيث ستحصل علي مرتّب فلا جهداً كبيراً ستبذل. لكن هل ترغب أن تشتغل عاملاً يدويّاً؟ سوف أضمن لك هذا، لن تكون حمّال بيت أو عامل مصنع. أنت أنبل من أن تكون كذلك.
- ” أحقّاً ما تقول؟” . تكلم الشحاذ مُبدياً ابتسامة سخرية ” كيف أكون عاملاً يدويّاً؟” فات الوقت الذي أكون فيه عامل في دكان. والعمل في التجارة يستدعي أن تبدأ المهنة وأنت صغير.. ولا احد سيشغلني حمّال بيت لأني لست من هذا الصنف… لم أكن قد عملت في مصنع مسبقاً أما التجارة فيجيدها شخص يعرفها.
- هُراء! دوماً تبحث عن مبررات التهرب. ألا ترغب أن تكون قاطع أخشاب؟”
- ” لا ارفض ذلك، لكن عمّال قطع الأخشاب أنفسهم الآن عاطلون عن العمل”.
- أوه، كل العاطلين يجادلون بمثل ذلك. فحالما يُعرض عليك مقترح ترفضه.. هل ترغب بأن تكون قاطع أخشاب عندي؟”
- بالتأكيد أرغب.
- جيد جداً.. سوف نري… ممتاز. سنري” بعصبية وامضة وبلا سرور متخابث فرك سكفورتسوف كفّيه مستدعياً طبّاخته من المطبخ.
- ” تعالي، يا أولغا.”.. قال ” خذي هذا السيد إلي السقيفة ودعيه يقطع لنا بعض الأخشاب”.
هز الشحاذ كتفيه بحركة يريد منها إظهار لا مبالاته رغم ارتباكه.وبلا رغبةٍ تبع الطبّاخة. كان واضحاً من تصرفه أنه وافق أن يذهب ويقطع الأخشاب لا لأنه جائع ويبغي كسبَ مالٍ بل لأنه ببساطة يبغي احترام الذات وتجنّب خزيٍ سيلحق به إن رفض عرض الرجل المحامي ؛ كذلك لأنه أعطي كلمته في الرغبة بالعمل. ومن الواضح أيضاً أن موافقته جاءت جراء معاناة صنعها له الإدمان علي شرب الفودكا ما جعله عليلاً، يبعده الدوار عن كل مَيلٍ للعمل.
أسرع سكفورتسوف إلي غرفة الطعام. ومن النافذة المطلة علي الفناء استطاع مشاهدة سقيفة الخشب وكل شيء يحدث في الفناء. منتصباً عند النافذة أبصر الطباخة والشحاذ يظهران علي الطريق الخلفي في الفناء ويتجهان عبر الطريق الثلجي الموحل إلي سقيفة الخشب. فتحت أولغا الباب بطريقة عنيفة.
- ” علي الأغلب قطعنا علي المرأة تناولها القهوة.” فكّر سكفورتسوف” أي مخلوقة محرومة هذه المرأة!”
شاهد مدير المدرسة المزيف والطالب المزيف يجلس علي كتلة من الخشب، محنياً خديه الأحمرين علي قبضتيه، غارقاً في التفكير. رمت الطباخة فأساً عند قدميه باصقةً بغضب علي الأرض. غضب تظهره تعبيرات شفتيها، منهالةً عليه بالسباب. سحب الشحاذ زند الخشب إليه بلا رغبة. ثبَّته بين قدميه، وبحياء مرَّر الفأس عبر الزند، فتداعي الزند وسقط. سحبه إليه ثمَ نفخ علي كفيّه المتجمدين ؛ ومرّةً أخري مرر الفأس عليه بحذر خشية أن يضرب حذاءه أو يقطع أصابع قدميه. سقط الزند مرةً أخري.
تبدد غضب سكفورتسوف تلك اللحظة وهو يرمق هذا المشهد. شعر بالخجل والحسرة معتقداً أنه اجبر المدلل السكير الذي قد يكون مريضاً من الصعب عليه أداء عمل صعب كهذا، في يوم بارد كهذا.
- ” لا تبالي. دعه يستمر في عمله…..” فكّر متحركاً من غرفة الطعام إلي المكتبة” افعل ذلك لصالحه!”
بعد مرور ساعةٍ ظهرت أولغا معلنةً إكمال تقطيع الخشب.
- إذاً. أعطه نصف روبل.”.. قال سكفورتسوف.” إذا رغب دعيه يأتي ويقطع الخشب بداية كل شهر….. سيكون ثمّة عمل دائم له”.
في بداية الشهر ظهر الشحاذ، ومرة أخري حصل علي نصف روبل علي الرغم من أنه لم يبق طويلاً. منذ ذلك الوقت ظل يواصل المجيء فيجد العمل ينتظره. بعض الأحيان كان يقوم بمهمة كنس وإزاحة الثلج من علي كومة القش أو تنظيف السقيفة. وفي عملٍ آخر يقوم بضرب السجّاد والافرشة. صار دائما يستلم ثلاثين أو أربعين كوبيكا لقاء عمله، ولم يعُد يتلقي بنطلوناً قديماً في أية مناسبة.
عندما انتقل سكفورتسوف طُلـِب منه المساعدة في حزم ونقل الأثاث. في المناسبة تلك كان الشحاذ وقوراً وعابساً وصامت. نادراً ما يمس الأثاث، ويمشي برأسٍ متدلٍّ خلف العربات حاملة الأثاث ولم يظهر أنه منشغل بالمهمة الموكلة إليه، يرتجف من البرد فحسب، ويسيطر علي ارتباكٍ جرّاء ضحك العمال المرافقين للعربة علي كسله وخموله وسترته الرثّة التي كانت يوماً ما تعود لرجلٍ نبيل.
- ” حسنا.. أري أن كلماتي أثَّرت به”. قال سكفورتسوف وهو يناوله روبلاً” هذا مقابل عملك. أري انك غير ثمل ولا نافرٍ من العمل.. ما اسمك؟”
- ” لوشكوف.”
- أستطيع أن أوفر لك عملاً أفضل غير منفر، يا لوشكوف.. هل تستطيع الكتابة؟”
- ” نعم سيدي”.
- ” إذاً اذهب غداً بهذه التوصية إلي زميلٍ لي وسيعطيك بعض النسخ لنسخها. اعمل بجد ولا تشرب، ولا تنسي أيضاً ما قلته لك.. إلي اللقاء”. .
سُرَّ سكفورتسوف لوضعه ليشكوف في الطريق المستقيم، رابتاً علي كتفه بلطف ومصافحاً له عند المغادرة.
تناول ليشكوف الرسالة وغادر.. ومنذ ذلك الوقت لم يحضر إلي الفناء الخلفي لبيت سكفورتسوف أبداً.
عامان مرا علي ذلك.
وفي احد الأيام ؛ وفيما كان سكفورتسوف واقفاً عند مكتب بيع بطاقات الدخول إلي المسرح يهم بدفع المبلغ المستحق لشراء تذكرة أبصر إلي جانبه رجلاً ضئيل الجسم بياقة فروها من جلد الحمل، يعتمر قبعة رثّة من جلد القطط. بجبن طلب الرجل من قاطع التذاكر تذكرةً، دافعاً بعض الكوبيكات.
- ” ألست أنت ليشكوف؟” توجه سكفورتسوف بالسؤال إلي الرجل الضئيل مدركاً أنه قاطع الأخشاب السابق.” حسنا، ماذا تعمل الآن؟ هل تسير الأمور علي ما يرام؟”
- ” جيدة جداً.. أعمل الآن في مكتب كاتب العدل. واكسب خمس وثلاثين روبلاً ” .
- ” حسنا.. شكراً لله، أنا مبتهج لأجلك. سعيد، سعيد جداً يا ليشكوف. أتعرف أنك بطريقة ما مثل ولدي. فأنا مَن أرشدك إلي الدرب الصواب. هل تتذكّر أي توبيخ كنت أوجهه إليك؟ كنت ذلك الوقت تغوص خجلاً في الأرض.. حسناً. أشكرك يا عزيزي علي تذكرك لنصائحي”. .
- ” شكراً لك أيضاً” قال ليشكوف” لو لم أجيء إليك يوماً لربما بقيت لحد هذا اليوم أدعي بأني مدير مدرسة أو طالب. نعم في بيتك تمَّ إنقاذي وتسلقي خروجاً من الحفرة.
- ” أنا مسرور. مسرور جداً” .
- شكراً لكلماتك العطوفة ومآثرك. ما قلته ذلك اليوم رائعاً. أقرُّ بحسن صنيعك وصنيع طبّاختك. ليباركها الله. امرأة ذات قلب نبيل. ما قلته تلك الأيام كان رائعاً. أنا طبعاً ممتنُّ لك طالما أنا علي قيد الحياة لكن أولغا طباختك هي التي أنقذتني.
- ” كيف ذلك؟”
- ” كيف؟.. كنتُ ما أن أجيء إليك لتقطيع الخشب حتي تبدأ هي:” آ، يا سكران ! يا تمبَّل، يا مَن لم يأخذك الموت لحد الآن!” . بعدها تخطو لتقف قبالتي راثيةً، محدقة في وجهي ونائحة:” أنتَ شخص غير محظوظ! لا تملك شيئاً من السعادة التي في هذا العالم، وفي المقابل سيصلونَك في النار السعير أيها السكّير المسكين! أنت مخلوق فقير وحزين!”. لقد كانت دائماً تخاطبني بهذا الأسلوب. كم كانت تُقلق نفسها َ، وكم مرة ذرفت الدموع لأجلي، لا أستطيع أن أخبرك َ. لقد أثَّرت بي كثيراً فجعلتني أتغيّر. كانت تتولي تقطيع الخشب عوضاً عني. هل تدري يا سيدي كم تغيّرتُ، وكيف تخلّيتُ عن الشرب. لا استطيع الشرح. فقط اعرف ما كانت تقوله، والسلوك النبيل الذي سلكَته في تصرفها معي فدفعني إلي التحول من أعماق روحي. لن أنسي حسن صنيعها… أنه وقت الدخول. الجرس علي وشك أن يُضرب”.
انحني لوشكوف احتراماً، وتحرك صوب صالة العرض