كان هناك مزاد لبيع الزهور في دفيئة تابعة للكونت ن. ولم يكن هناك إلاّ القليل من المشترين ، تاجر أخشاب شاب، وأحد ملاك الأراضي من جيراني وأنا.
وبينما كان العمال ينقلون مشترياتنا الرائعة للمركبات وينظمونها فيها ، جلسنا نحن على عتبة أحد أبواب الدفيئة للحديث عن هذا الأمر أو ذاك، وإنه لمن الممتع بدرجة كبيرة أن تجلس في بستان ما في صباح يوم من أيام إبريل مصغياً للطيور مُـمِّتـعاً نظرك وأنت تشاهد الزهور التي نقلت للخارح وهي تستدفئ بأشعة الشمس.
كان البستاني نفسه يشرف على عملية ترتيب نباتاتنا، وكان اسمه" ميكائيل كارلوفيتش" – رجل مسن بوجه حليق يرتدي صديريه من الفرو دون معطف فوقها. <p> </p>كان صامتاً لا يتفوه بكلمة ، ولكنه كان يحتفظ بأذن من أذنيه مفتوحة علي حديثنا أملاً منه أنه ربما أتينا خلال ذلك ببعض الأخبار.<p> </p>كان رجلاً فطناً وذو قلب كريم. ولسبب ما كان الناس يظنونه ألمانيا بالرغم من أن أباه كان سويدياً وأمه روسية وهو نفسه يمارس معتقده تابعاً للكنيسة الروسية.<p> </p>كان يجيد الروسية والألمانية والسويدية وقرأ كثيراً بكل هذه اللغات، ولو أراد أحدهم أن يجلب السعادة إلى قلبه فما عليه إلاّ أن يقدم له كتاباً جديداً ليقرأه أو أن يتحدث إليه عن "إبسن " ، مثلاً. نعم كانت له بعض الهفوات ولكنها كلها هفوات حميدة لا تضر أحداً، وعلى سبيل المثال كان يتحدث عن نفسه كرئيس عمال البستان بالرغم من أنه لم يكن هناك بستانيون أخرون يترأس عليهم. كانت تعبيرات وجهه قاسية ومتغطرسة. وكان لا يتحمل التناقض ويحب أن يُستـمَـع إليه بجدية واهتمام.<p> </p><p>" ذلك الشاب، هناك، وغد مرعب. " قال جاري وهو يشير لعامل شاب ذو ملامح غجرية يدفع أمامه برميل من براميل الماء. " لقد حوكم بتهمة السرقة بالإكراه الأسبوع الماضي في المدينة، ولكن المحكمة رأت أنه لم يكن مؤهل عقلياً للوقوف أمامها، ومع ذلك، أنظر إليه ، إنه يبدو لي أن به من الصحة ما يكفي. لقد أُطْـلـِق سراح الكثيرين في روسيا هذه الأيام بدعوى حالات مرضية، وأثار عمليات إطلاق السراح هذه، وهذا التساهل والضعف الواضح لا يمكن أن تكون إلاّ سيئات. هم أساءوا لأخلاقيات البشر فأصبح حس العدالة عند الجميع بليداً لأننا الآن ألفنا رؤية الجريمة تذهب بلا عقاب مما يجعلنا نذهب ما ذهب إليه شكسبير:</p><p>" في أيام رخائنا، في زمن الثراء، الفضيلة نفسها تستجدي العفو من الرذيلة"</p><p>" هذا صحيح " قال التاجر موافقاً " لقد أصبح لدينا من جرائم القتل والتخريب أكثر مما كان قبل أن تغمرنا موجة إخلاء السبيل والعفو هذه ، اسألوا إن لم تصدقوني!"</p><p>إلتفت ميكائيل كارلوفيتش نحونا وقال :</p><p>" إسألوني أنا أيها السادة ، إنني دائماً أرحب بأي حُـكم يأمر بإخلاء سبيل متهم ، أرحب به وأسعد . إنني لا أرتعد خوفاً على الأخلاق والعدالة عندما يُـعْـلَـن عن براءة إنسان، بل بالعكس فإنه يغمرني احساس بالسعادة وإنني لأبتهح عند سماعي ذلك حتى في تلك الأوقات التي يهمس بها ضميري ليقول أن المحكمة قد أخطأت بإخلائها سبيل السجين. ألا تعتقدون ياسادتي أنه لو أن للقضاة ومساعديهم إيمان بالطبيعة البشرية بدلا من القائهم الخُـطَـب والحديث عن الأدلة المادية ، ألم يكن لمثل هذا الإيمان بذاته أن يصبح أكثر أهمية من أية اعتبارات دنيوية ؟ هذا ما لا تبلغه إلا القلة التي عرفت المسيح وأحست به. </p><p>قلت " نعم ، إنها فكرة جيدة " </p><p>" الفكرة ليست جديدة، بل إنني أتذكرالآن اسطورة سمعتها منذ زمن طويل- اسطورة على هذا المنوال، اسطورة جميلة " قال البستاني وهويبتسم " جدّتي هي التي روتها لي، والدة أمي، امرأة عجوز تتميز بالحكمة، قالتها لي بالسويديه وظني أنها لن تكون جميلة أو كلاسيكية لو قيلت بالروسية."</p>ولكننا توسلنا إليه أن يقصها علينا وألاّ يتحـسّـب خشونة اللغة الروسية. مسروراً بهذه الدعوة أنهى تدخين غليونه ببطئ ، ثم ألقى نظرة غضب على العـمّال وبدأ:<p> </p><p>" جاء مرة رجل هادئ متوسط العمر ليقيم في مدينة صغيرة . كان إسمه تومسون أو نيلسون ولا يهم هنا أيهما كان ، ذلك لا تبعة له في القصة. كان الرجل يمارس مهنة نبيلة –كان طبيباً يبريئ المرضى. كان رجلاً قليل الكلام غير ميال للتواصل بصفة دائمة ولا يتحدث إلاّ بقدر ما تتطلبه مهنته. لم يكن يزور أحداً ولم يمد تعارفه مع أي إنسان إلى مدًى أبعد من إيماءة صامتة. عاش الرجل باقتصاد كالزهاد تماماً. كان ملخص الأمر أن هذا الرجل كان عالِماً في زمن كان العلماء فيه يختلفون عن العامة من الناس. آنذاك كان يقضون أيامهم ولياليهم في التأمل وقراءة الكتب ومعالجة المرضى، وكانوا يترفعون عن كل شيئ عدا ذلك ثم أنه لم يكن لديهم وقتاً يهدرونه في صياغة الكلمات.</p><p>كان مواطنو المدينه يعون كل ذلك جيداً وكانوا لذلك يتجنبون إزعاجه بالزيارات أو حديث الإشاعة الكسول. كان لا يخفون ابتهاجهم من أن الله قد أكرمهم ، أخيراً، بأن بعث لهم رجلاً يبريئ مرضاهم ، فيحسون بالفخر يملأ نفوسهم، فخر أن رجلاً في مثل هذه الروعة قد اختار أن يعيش بينهم. وكانوا يقولون عنه " إنه يعرف كل شيئ" .</p><p>ولكن ذلك ليس كافياً فلقد كان من الواجب عليهم أن يقولوا " إنه كان يحب كل واحد منهم". قلب ملائكي رائع كان ينبض في صدر ذلك الرجل العارف. وبعد قول كل ما يقال ألم يكن سكان المدينة ، في الحقيقة غرباء عنه؟ لم يكونوا من أقرباءه ولكنه أحبهم كما لو كانوا أطفاله حتى أنه لم يثقل عليهم بحياته بينهم. </p>كان هو نفسه مريضاً بالإستنفاذ و الإرهاق ، ومع ذلك فإنه عندما يدعى لزيارة مريض ما ينسى مرضه هو، فيصعد الجبال وإن علت و يتغلب على الحر والقر ويستصغر الجوع و العطش وهو بعد كل ذلك لا يقبل أجراً من مرضاه، بل أن الغريب أنه عندما يتوفّى مريض له فإنه كان يتبع الجنازة عند تشييعها بعينين دامعتين حتي مثواها الأخير.<p> </p>
وما أسرع ما أصبح الطبيب رجلاً لا يمكن الإستغناء عنه ، بل إن المواطنون ليتعجبون كيف كان بإمكانهم أن يعيشوا دون وجوده فيما سبق. كان إحساسهم بالجميل نحوه بلا حدود. الشباب والشيوخ، الجميل والقبيح، الشريف و الشقي- وبكلمات أخرى – كان الكل يبجله و يعلي من شأنه. لم يكن هناك مخلوق في المدينة أو ما جاورها من تسمح له نفسه بإيذاء الرجل أو حتى من يسمح أن يسرّ ذلك في نفسه.
عندما كان يخرج من بيته فإنه كان من عادته أن يترك الأبواب و النوافذ غير مغلقة وهو واثق ثقة تامة من أنه لا يوجد لص يمكن أن يقرر الإضرار بحقه . وكثيراً ما حدث أن واجباته كطبيب كانت تضطره إلى الخروج في الطرق البعيدة الموحشة التي تتخللها الغابات و الجبال حيث يجوس كثير من المشردين و الجوعى ولكنه حتى هنا كان يحس إحساساً كاملاً بالأمان. وفي ليلة ، وهو عائد إلى منزله بعد زيارة مريض، تعرض لهجوم من قطاع الطرق في الغابة، ولكن وعندما تعرفوا عليه فإن أولئك الرجال خلعوا قبعاتهم إجلالاً له وطلبوا منه أن يأكل شيئاً ، فأحبرهم أنه لا يحس بالجوع ، فأعاروه عباءة دافئة وصحبوه حتى المدينة فرحين بما هيئه لهم القدر من سانحة لرد جميل هذا الرجل ذو القلب العظيم بطريقة ما.
<p>" حسناً ، كانت جدتي تواصل القول بأنه حتى الخيل والبقر كانت تعرف ذلك الرجل وتظهر سعادتها برؤياه"</p><p>وهذا الرجل الذي يبدو أنه معصوم بسموه عن كل شر والذي عد المنبوذين والمجانين من جملة أصدقائه، هذا الرجل وجد في صباح يوم جميل مقتولاً. وجد ملقى تغطيه بقع الدم في قاع واد وجمجمته مهشمة . كان وجهه الأبيض يعبر عن المفاجئة ؛ نعم المفاجأة لا الرعب مرتسمة على وجهه عندما رأى قاتله أمامه.</p>يمكنكم تخيل غرق المدينة وما حولها من البلدات في الحزن. وفي غمرة من اليأس ، وهو لا يصدق عينيه ، أصبح كل رجل يسأل نفسه " من الذي يمكنه قتل ذلك الرجل؟" . وأما القضاة الذين حققوا في مقتله فقد قالوا:<p> </p>"عندنا هنا كل الشواهد التي تنطق بالجريمة ، ولكنه أمام حقيقة أنه لا يمكن أن يوجد رجل في العالم يمكنه أن يقتل حكيمنا ، فإنه من الواضح أنه لم ترتكب جريمة ما وأن تراكيب هنا ليس سوي مصادفة محضة. يجب علينا إذن إفتراض أن الطبيب قد هوى من حافة الجرف في الظلام وجُرِح جرحاً أودى بحياته.<p> </p><p>وسكنت المدينه بهذا الرأي ووارت الطبيب الثرى، وبعدها لم يتحدث أحد عن أي موت عنيف.</p><p>ولكن هل تصدقون هذا، فجأة وبالصدفة كُشِف القاتل. متشرد أوقف مرات عديده ومعروف بحياته الشقيه. قدّم صندوق نشوق الطبيب مقابل كأس من الشراب في إحدى الحانات. وعندما وجهت له تهمة إرتكاب الجريمة فوجئ وأتى بكذبة شفافة . وعند إجراء التفتيش وجد قميص بأكمام ملوثة بالدم تحت سريره.</p>أية أدلة أنصع من هذه؟ ألقي بالشقي . أصاب سكان المدينة غضباً شديداً و لكنهم ، في نفس الوقت أخذوا يقولون : "هذا لا يمكن تصديقه! هذا لا يمكن تصديقه! هذا لا يمكن أن يحدث! إحذروا فإن الأدلة تكذب أحياناً".<p> </p>وعند محاكمته نفى القاتل جرمه ولكن كل شيئ كان ضده ولقد كان من السهل حينها تصديق أنه مذنب سهولة تصديق أن الأرض سوداء. ولكن يبدو أن قضاته كانوا قد أصيبوا بالخبل. كان يتداولون في كل قطعة من قطع الأدلة ويفحصونها وينظرون إلى الشهود نظره تشكك وارتياب، ويتمضمضون ويشربون الماء. كانت المحاكمة قد بدأت مبكراً في صباح يوم واستغرقت حتى ساعة متأخرة من الليل.<p> </p><p>" لقد تمت إدانتك" قال رئيس القضاة وهو يتلفت نحو المتهم"</p><p>" لقد وجدت المحكمة فيك مذنباً بقتل الطبيب وعليه فإنني أصدر حكماً عليك......."</p><p>كان القاضي يريد أن يكمل بقوله " بالموت" ولكن الورقة التي كان الحكم مكتوباً عليها سقطت من بين يديه؛ مسح العرق من على جبينه ثم صاح:</p><p>" لا! ليعاقبني الله لو أنني أصدرت حكماً ظالماً، أقسم بالله أنه برئ. لا يمكنني قبول فكرة أن هناك من يجرؤ على ويقتل صديقنا الدكتور. لا يمكن للإنسان أن ينحدر لهذا الدرك وهذه السفالة."</p><p>"لا !، لا يمكن أن يوجد مثل هذا الإنسان " قال بقية القضاة يوافقونه.</p>"لا أحد " جاء صدى الجمهور " أطلقوا سراحه"<p> </p>أُطلق سراح القاتل ولم يُتهم أحد بإصدر حكم غير عادل. وكانت جدتي تقول أن الله قد غفر لسكان هذه المدينة أخطائهم جزاء إيمانهم. إن الله ليبتهج حين يعتقد البشر أن البشرية مخلوقة على مثاله وصورته، وإنه ليحزن حين يرى البشر ينسون قيمة الإنسان ويحكمون عليه بقسوة تفوق تلك التي يحكمون بها على الكلب. وحتى لو أن إطلاق السراح ذلك قد ألحق الأذى بالسكان ، فكر من ناحية أخرى في الأثر الذي تركه إيمانهم بالبشرية في نفوسهم. إيمان لايبقى خامداً ولكنه ينسل أفكاراً رشيدة في أفئدتنا ويثير فينا أحلام كل إنسان. كل إنسان!<p> </p>إنتهى ميكائيل كارلوفيتش من رواية قصته و كان جاري يريد إبداء شيئ ، ولكن البستاني أفهمه بإيماءة أنه لا يحب التعقيب. ثم أنه سار نحو المركبات حيث انهمك مرة أخرى في تعبئة نباتاتنا وتعبير الإحساس بالأهمية على وجهه.
وبينما كان العمال ينقلون مشترياتنا الرائعة للمركبات وينظمونها فيها ، جلسنا نحن على عتبة أحد أبواب الدفيئة للحديث عن هذا الأمر أو ذاك، وإنه لمن الممتع بدرجة كبيرة أن تجلس في بستان ما في صباح يوم من أيام إبريل مصغياً للطيور مُـمِّتـعاً نظرك وأنت تشاهد الزهور التي نقلت للخارح وهي تستدفئ بأشعة الشمس.
كان البستاني نفسه يشرف على عملية ترتيب نباتاتنا، وكان اسمه" ميكائيل كارلوفيتش" – رجل مسن بوجه حليق يرتدي صديريه من الفرو دون معطف فوقها. <p> </p>كان صامتاً لا يتفوه بكلمة ، ولكنه كان يحتفظ بأذن من أذنيه مفتوحة علي حديثنا أملاً منه أنه ربما أتينا خلال ذلك ببعض الأخبار.<p> </p>كان رجلاً فطناً وذو قلب كريم. ولسبب ما كان الناس يظنونه ألمانيا بالرغم من أن أباه كان سويدياً وأمه روسية وهو نفسه يمارس معتقده تابعاً للكنيسة الروسية.<p> </p>كان يجيد الروسية والألمانية والسويدية وقرأ كثيراً بكل هذه اللغات، ولو أراد أحدهم أن يجلب السعادة إلى قلبه فما عليه إلاّ أن يقدم له كتاباً جديداً ليقرأه أو أن يتحدث إليه عن "إبسن " ، مثلاً. نعم كانت له بعض الهفوات ولكنها كلها هفوات حميدة لا تضر أحداً، وعلى سبيل المثال كان يتحدث عن نفسه كرئيس عمال البستان بالرغم من أنه لم يكن هناك بستانيون أخرون يترأس عليهم. كانت تعبيرات وجهه قاسية ومتغطرسة. وكان لا يتحمل التناقض ويحب أن يُستـمَـع إليه بجدية واهتمام.<p> </p><p>" ذلك الشاب، هناك، وغد مرعب. " قال جاري وهو يشير لعامل شاب ذو ملامح غجرية يدفع أمامه برميل من براميل الماء. " لقد حوكم بتهمة السرقة بالإكراه الأسبوع الماضي في المدينة، ولكن المحكمة رأت أنه لم يكن مؤهل عقلياً للوقوف أمامها، ومع ذلك، أنظر إليه ، إنه يبدو لي أن به من الصحة ما يكفي. لقد أُطْـلـِق سراح الكثيرين في روسيا هذه الأيام بدعوى حالات مرضية، وأثار عمليات إطلاق السراح هذه، وهذا التساهل والضعف الواضح لا يمكن أن تكون إلاّ سيئات. هم أساءوا لأخلاقيات البشر فأصبح حس العدالة عند الجميع بليداً لأننا الآن ألفنا رؤية الجريمة تذهب بلا عقاب مما يجعلنا نذهب ما ذهب إليه شكسبير:</p><p>" في أيام رخائنا، في زمن الثراء، الفضيلة نفسها تستجدي العفو من الرذيلة"</p><p>" هذا صحيح " قال التاجر موافقاً " لقد أصبح لدينا من جرائم القتل والتخريب أكثر مما كان قبل أن تغمرنا موجة إخلاء السبيل والعفو هذه ، اسألوا إن لم تصدقوني!"</p><p>إلتفت ميكائيل كارلوفيتش نحونا وقال :</p><p>" إسألوني أنا أيها السادة ، إنني دائماً أرحب بأي حُـكم يأمر بإخلاء سبيل متهم ، أرحب به وأسعد . إنني لا أرتعد خوفاً على الأخلاق والعدالة عندما يُـعْـلَـن عن براءة إنسان، بل بالعكس فإنه يغمرني احساس بالسعادة وإنني لأبتهح عند سماعي ذلك حتى في تلك الأوقات التي يهمس بها ضميري ليقول أن المحكمة قد أخطأت بإخلائها سبيل السجين. ألا تعتقدون ياسادتي أنه لو أن للقضاة ومساعديهم إيمان بالطبيعة البشرية بدلا من القائهم الخُـطَـب والحديث عن الأدلة المادية ، ألم يكن لمثل هذا الإيمان بذاته أن يصبح أكثر أهمية من أية اعتبارات دنيوية ؟ هذا ما لا تبلغه إلا القلة التي عرفت المسيح وأحست به. </p><p>قلت " نعم ، إنها فكرة جيدة " </p><p>" الفكرة ليست جديدة، بل إنني أتذكرالآن اسطورة سمعتها منذ زمن طويل- اسطورة على هذا المنوال، اسطورة جميلة " قال البستاني وهويبتسم " جدّتي هي التي روتها لي، والدة أمي، امرأة عجوز تتميز بالحكمة، قالتها لي بالسويديه وظني أنها لن تكون جميلة أو كلاسيكية لو قيلت بالروسية."</p>ولكننا توسلنا إليه أن يقصها علينا وألاّ يتحـسّـب خشونة اللغة الروسية. مسروراً بهذه الدعوة أنهى تدخين غليونه ببطئ ، ثم ألقى نظرة غضب على العـمّال وبدأ:<p> </p><p>" جاء مرة رجل هادئ متوسط العمر ليقيم في مدينة صغيرة . كان إسمه تومسون أو نيلسون ولا يهم هنا أيهما كان ، ذلك لا تبعة له في القصة. كان الرجل يمارس مهنة نبيلة –كان طبيباً يبريئ المرضى. كان رجلاً قليل الكلام غير ميال للتواصل بصفة دائمة ولا يتحدث إلاّ بقدر ما تتطلبه مهنته. لم يكن يزور أحداً ولم يمد تعارفه مع أي إنسان إلى مدًى أبعد من إيماءة صامتة. عاش الرجل باقتصاد كالزهاد تماماً. كان ملخص الأمر أن هذا الرجل كان عالِماً في زمن كان العلماء فيه يختلفون عن العامة من الناس. آنذاك كان يقضون أيامهم ولياليهم في التأمل وقراءة الكتب ومعالجة المرضى، وكانوا يترفعون عن كل شيئ عدا ذلك ثم أنه لم يكن لديهم وقتاً يهدرونه في صياغة الكلمات.</p><p>كان مواطنو المدينه يعون كل ذلك جيداً وكانوا لذلك يتجنبون إزعاجه بالزيارات أو حديث الإشاعة الكسول. كان لا يخفون ابتهاجهم من أن الله قد أكرمهم ، أخيراً، بأن بعث لهم رجلاً يبريئ مرضاهم ، فيحسون بالفخر يملأ نفوسهم، فخر أن رجلاً في مثل هذه الروعة قد اختار أن يعيش بينهم. وكانوا يقولون عنه " إنه يعرف كل شيئ" .</p><p>ولكن ذلك ليس كافياً فلقد كان من الواجب عليهم أن يقولوا " إنه كان يحب كل واحد منهم". قلب ملائكي رائع كان ينبض في صدر ذلك الرجل العارف. وبعد قول كل ما يقال ألم يكن سكان المدينة ، في الحقيقة غرباء عنه؟ لم يكونوا من أقرباءه ولكنه أحبهم كما لو كانوا أطفاله حتى أنه لم يثقل عليهم بحياته بينهم. </p>كان هو نفسه مريضاً بالإستنفاذ و الإرهاق ، ومع ذلك فإنه عندما يدعى لزيارة مريض ما ينسى مرضه هو، فيصعد الجبال وإن علت و يتغلب على الحر والقر ويستصغر الجوع و العطش وهو بعد كل ذلك لا يقبل أجراً من مرضاه، بل أن الغريب أنه عندما يتوفّى مريض له فإنه كان يتبع الجنازة عند تشييعها بعينين دامعتين حتي مثواها الأخير.<p> </p>
وما أسرع ما أصبح الطبيب رجلاً لا يمكن الإستغناء عنه ، بل إن المواطنون ليتعجبون كيف كان بإمكانهم أن يعيشوا دون وجوده فيما سبق. كان إحساسهم بالجميل نحوه بلا حدود. الشباب والشيوخ، الجميل والقبيح، الشريف و الشقي- وبكلمات أخرى – كان الكل يبجله و يعلي من شأنه. لم يكن هناك مخلوق في المدينة أو ما جاورها من تسمح له نفسه بإيذاء الرجل أو حتى من يسمح أن يسرّ ذلك في نفسه.
عندما كان يخرج من بيته فإنه كان من عادته أن يترك الأبواب و النوافذ غير مغلقة وهو واثق ثقة تامة من أنه لا يوجد لص يمكن أن يقرر الإضرار بحقه . وكثيراً ما حدث أن واجباته كطبيب كانت تضطره إلى الخروج في الطرق البعيدة الموحشة التي تتخللها الغابات و الجبال حيث يجوس كثير من المشردين و الجوعى ولكنه حتى هنا كان يحس إحساساً كاملاً بالأمان. وفي ليلة ، وهو عائد إلى منزله بعد زيارة مريض، تعرض لهجوم من قطاع الطرق في الغابة، ولكن وعندما تعرفوا عليه فإن أولئك الرجال خلعوا قبعاتهم إجلالاً له وطلبوا منه أن يأكل شيئاً ، فأحبرهم أنه لا يحس بالجوع ، فأعاروه عباءة دافئة وصحبوه حتى المدينة فرحين بما هيئه لهم القدر من سانحة لرد جميل هذا الرجل ذو القلب العظيم بطريقة ما.
<p>" حسناً ، كانت جدتي تواصل القول بأنه حتى الخيل والبقر كانت تعرف ذلك الرجل وتظهر سعادتها برؤياه"</p><p>وهذا الرجل الذي يبدو أنه معصوم بسموه عن كل شر والذي عد المنبوذين والمجانين من جملة أصدقائه، هذا الرجل وجد في صباح يوم جميل مقتولاً. وجد ملقى تغطيه بقع الدم في قاع واد وجمجمته مهشمة . كان وجهه الأبيض يعبر عن المفاجئة ؛ نعم المفاجأة لا الرعب مرتسمة على وجهه عندما رأى قاتله أمامه.</p>يمكنكم تخيل غرق المدينة وما حولها من البلدات في الحزن. وفي غمرة من اليأس ، وهو لا يصدق عينيه ، أصبح كل رجل يسأل نفسه " من الذي يمكنه قتل ذلك الرجل؟" . وأما القضاة الذين حققوا في مقتله فقد قالوا:<p> </p>"عندنا هنا كل الشواهد التي تنطق بالجريمة ، ولكنه أمام حقيقة أنه لا يمكن أن يوجد رجل في العالم يمكنه أن يقتل حكيمنا ، فإنه من الواضح أنه لم ترتكب جريمة ما وأن تراكيب هنا ليس سوي مصادفة محضة. يجب علينا إذن إفتراض أن الطبيب قد هوى من حافة الجرف في الظلام وجُرِح جرحاً أودى بحياته.<p> </p><p>وسكنت المدينه بهذا الرأي ووارت الطبيب الثرى، وبعدها لم يتحدث أحد عن أي موت عنيف.</p><p>ولكن هل تصدقون هذا، فجأة وبالصدفة كُشِف القاتل. متشرد أوقف مرات عديده ومعروف بحياته الشقيه. قدّم صندوق نشوق الطبيب مقابل كأس من الشراب في إحدى الحانات. وعندما وجهت له تهمة إرتكاب الجريمة فوجئ وأتى بكذبة شفافة . وعند إجراء التفتيش وجد قميص بأكمام ملوثة بالدم تحت سريره.</p>أية أدلة أنصع من هذه؟ ألقي بالشقي . أصاب سكان المدينة غضباً شديداً و لكنهم ، في نفس الوقت أخذوا يقولون : "هذا لا يمكن تصديقه! هذا لا يمكن تصديقه! هذا لا يمكن أن يحدث! إحذروا فإن الأدلة تكذب أحياناً".<p> </p>وعند محاكمته نفى القاتل جرمه ولكن كل شيئ كان ضده ولقد كان من السهل حينها تصديق أنه مذنب سهولة تصديق أن الأرض سوداء. ولكن يبدو أن قضاته كانوا قد أصيبوا بالخبل. كان يتداولون في كل قطعة من قطع الأدلة ويفحصونها وينظرون إلى الشهود نظره تشكك وارتياب، ويتمضمضون ويشربون الماء. كانت المحاكمة قد بدأت مبكراً في صباح يوم واستغرقت حتى ساعة متأخرة من الليل.<p> </p><p>" لقد تمت إدانتك" قال رئيس القضاة وهو يتلفت نحو المتهم"</p><p>" لقد وجدت المحكمة فيك مذنباً بقتل الطبيب وعليه فإنني أصدر حكماً عليك......."</p><p>كان القاضي يريد أن يكمل بقوله " بالموت" ولكن الورقة التي كان الحكم مكتوباً عليها سقطت من بين يديه؛ مسح العرق من على جبينه ثم صاح:</p><p>" لا! ليعاقبني الله لو أنني أصدرت حكماً ظالماً، أقسم بالله أنه برئ. لا يمكنني قبول فكرة أن هناك من يجرؤ على ويقتل صديقنا الدكتور. لا يمكن للإنسان أن ينحدر لهذا الدرك وهذه السفالة."</p><p>"لا !، لا يمكن أن يوجد مثل هذا الإنسان " قال بقية القضاة يوافقونه.</p>"لا أحد " جاء صدى الجمهور " أطلقوا سراحه"<p> </p>أُطلق سراح القاتل ولم يُتهم أحد بإصدر حكم غير عادل. وكانت جدتي تقول أن الله قد غفر لسكان هذه المدينة أخطائهم جزاء إيمانهم. إن الله ليبتهج حين يعتقد البشر أن البشرية مخلوقة على مثاله وصورته، وإنه ليحزن حين يرى البشر ينسون قيمة الإنسان ويحكمون عليه بقسوة تفوق تلك التي يحكمون بها على الكلب. وحتى لو أن إطلاق السراح ذلك قد ألحق الأذى بالسكان ، فكر من ناحية أخرى في الأثر الذي تركه إيمانهم بالبشرية في نفوسهم. إيمان لايبقى خامداً ولكنه ينسل أفكاراً رشيدة في أفئدتنا ويثير فينا أحلام كل إنسان. كل إنسان!<p> </p>إنتهى ميكائيل كارلوفيتش من رواية قصته و كان جاري يريد إبداء شيئ ، ولكن البستاني أفهمه بإيماءة أنه لا يحب التعقيب. ثم أنه سار نحو المركبات حيث انهمك مرة أخرى في تعبئة نباتاتنا وتعبير الإحساس بالأهمية على وجهه.