نزار قباني |
شؤونٌ صغيرةْ
تمرُّ بها أنتَ .. دونَ التفاتِ
تُساوي لديَّ حياتي
جميع حياتي ..
حوادث .. قد لا تثيرُ اهتمامكَ
أُعَمِّرُ منها قصورْ
وأحيا عليها شُهورْ
وأغزِلُ منها حكايا كثيرَةْ
وألفَ سماءٍ ..
وألفَ جزيرةْ ..
شؤونٌ ..
شؤونكَ تلكَ الصغيرةْ
فحين تُدخنُ أجثو أمامكْ
كقطتكَ الطيبةْ
وكُلي أمانْ
أُلاحقُ مزهوَّةً مُعجَبَةْ
خيوطَ الدخانْ
توزعُها في زوايا المكانْ
دوائر .. دوائرْ
وترحلُ في آخر الليلِ عنّي
كنجمٍ ، كطيبٍ مهاجرْ
وتترُكُني يا صديقَ حياتي
لرائحة التبغ والذكرياتِ
وأبقى أنا ..
في صقيع انفرادي
وزادي أنا .. كُلُّ زادي
حطامُ السجائرْ
وصحنٌ .. يضمُّ رماداً
يضمُّ رمادي ..
وحين أكونُ مريضةْ
وتحملُ أزهاركَ الغاليةْ
صديقي .. إليْ
وتجعلُ بين يديكَ يديّْ
يعودُ ليّ اللونُ والعافيةْ
وتلتصقُ الشمسُ في وجنتيْ
وأبكي .. وأبكي .. بغير إرادةْ
وأنتَ تردُ غطائي عليّْ
وتجعلُ رأسي فوق الوسادةْ ..
تمنيتُ كُلَّ التمني
صديقي .. لو أني
أظلُ .. أظلُ عليلةْ
لتسألَ عنّي
لتحملَ لي كلَّ يومٍ
وروداً جميلةْ ..
وإن رنَّ في بيتنا الهاتفُ
إليهِ أطيرْ
أنا .. يا صديقي الأثيرْ
بفرحةِ طفلٍ صغير
بشوق سنُونُوةٍ شاردةْ
وأحتضنُ الآلةَ الجامدةْ
وأعصرُ أسلاكها الباردةْ
وأنتظرُ الصوتَ ..
صوتكَ يهمي عليّْ
دفيئاً .. مليئاً .. قويّْ
كصوت ارتطام النجومِ
كصوتِ سقوط الحُليّْ
وأبكي .. وأبكي ..
لأنكَ فكرتَ فيّْ
لأنكَ من شُرُفات الغيوبِ
هتفتَ إليّْ ..
ويومَ أجيءُ إليكْ
لكي أستعير كتابْ
لأزعم أني أتيتُ لكي أستعير كتابْ
تمدُّ أصابعكَ المتعبةْ
إلى المكتبةْ ..
وأبقى أنا .. في ضباب الضبابْ
كأني سؤالٌ بغير جوابْ
أُحدقُ فيكَ وفي المكتبةْ ..
كما تفعلُ القطةُ الطيبةْ
تُراك اكتشفت ؟
تُراك عرفت ؟
بأنيَ جئتُ لغير الكتابْ
وأني لستُ سوى كاذبةْ
وأمضي سريعاً إلى مخدعي
أضمُ الكتاب إلى أضلعي
كأني حملتُ الوجود معي
وأُشعلُ ضوئي .. وأُسدلُ حولي الستُورْ
أنبشُ بين السطورِ .. وخلف السُطورْ
وأعدو وراءَ الفواصل .. أعدو
وراءَ نقاطٍ تدورْ
ورأسي يدورْ
كأني عصفورةٌ جائعةْ
تفتشُ عن فضلاتِ البذورْ
لعلك .. يا .. يا صديقي الأثيرْ
تركت بإحدى الزوايا ..
عبارةَ حُبٍّ قصيرةْ
جُنينةَ شوقٍ صغيرةْ
لعلكَ بين الصحائفِ خبأتَ شيَّا
سلاماً صغيراً .. يعيدُ السلامَ إليَّا ..
وحين نكونُ معاً في الطريقْ
وتأخذُ -من غير قصدٍ- ذراعي
أُحسُّ أنا يا صديقْ ..
بشيءٍ عميقْ
بشيءٍ يُشابهُ طعم الحريقْ
على مرفقي ..
وأرفعُ كفيَّ نحو السماءْ
لتجعلَ دربي بغير انتهاءْ
وأبكي .. أبكي بغير انقطاعِ
لكيْ يستمر ضياعي
وحين أعودُ مساءً إلى غُرفتي
وأنزعُ عن كتفي الرداءْ
أُحسُّ -وما أنتَ في غرفتي
بأنَّ يديكْ
تلفَّانِ في رحمةٍ مرفقي
وأبقى لأعشق يا مُرهقي
مكانَ أصابعكَ الدافئاتِ
على كُمِّ فستاني الأزرقِ ..
وأبكي .. أبكي .. بغير انقطاعِ
كأنَّ ذراعي ليستْ ذراعي