- جاء رسول من آل جريجوريف يطلب كتاباً، ولكني قلت أنكم لستم في المنزل. وحمل ساعي البريد جرائد ورسالتين. وبالمناسبة يا يفجيني بتروفيتش أرجو أن تولوا اهتمامكم إلى سيريوجا. فقد لاحظت اليوم، وأول أمس، أنه يدخن. وعندما بدأت أوبخه سد أذنيه كالعادة وأخذ يغني بصوت عال لكيلا يسمع ما أقول.
كان يفجيني بتروفتش بيكوفسكي وكيل نيابة الناحية، قد عاد لتوه من جلسة المحكمة وفرغ من نزع قفازه في غرفة مكتبه، فنظر إلى المربية التي كانت تبلغه هذا التقرير وضحك.
وقال وهو يهز كتفيه:
- سيريوجا يدخن... إنني أتخيل منظر هذا الصغير والسيجارة في فمه! ولكن كم عمره؟
- في السابعة. قد يبدو لكم هذا غير جدي، ولكن التدخين في سنه عادة سيئة ومضرة، والعادات السيئة ينبغي القضاء عليها في بدايتها.
- أنت على حق تماما. ومن أين يحصل على التبغ؟
- من درج مكتبكم.
- حقاً؟ في هذه الحالة أرسليه إليّ.
وبعد انصراف المربية جلس بيكوفسكي في المقعد أمام مكتبه، وأغمض عينيه، وراح يفكر. ولسبب ما رسم في خياله صورة لابنه سيريوجا وفي فمه سيجارة ضخمة طويلة، وتلفه سحب دخان السجائر، فجعلته هذه الصورة الكاريكاتيرية يبتسم. وفي الوقت نفسه آثار وجه المربية الجاد المهموم في نفسه ذكريات الماضي البعيد، المنسي تقريبا، عندما كان التدخين في المدرسة أو في غرفة الأطفال يثير في نفوس المدرسين والآباء رعباً غريباً، غير مفهوم تقريبا. كان ذلك رعبا بالفعل. وكانوا يضربون الأولاد بقسوة، ويفصلونهم من المدرسة، ويفسدون عليهم مستقبلهم، رغم أن أحداً من المدرسين أو الآباء لم يكن يعلم بالضبط ما هو الضرر من التدخين وما هي الجريمة في ذلك. وحتى أذكى الأشخاص لم يترددوا في مكافحة الرذيلة التي لم يكونوا يفهمونها. وتذكر يفجيني بتروفيتش ناظر مدرسته، ذلك العجوز المثقف جداً والطيب القلب والذي كان يتملكه الرعب إلى درجة الشحوب عندما يضبط تلميذاً يدخن، فيجمع على الفور مجلس المربين ويحكم على المذنب بالفصل. يبدو أن تلك هي طبيعة قانون الحياة المشتركة: فكلما ازداد الشر غموضاً أصبحت مقاومته أكثر ضراوة وفظاظة.
وتذكر وكيل النيابة اثنين أو ثلاثة من المفصولين، وتابع مجرى حياتهم بعد ذلك، فلم يستطع أن يمنع نفسه من التفكير بأن العقاب كثيراً ما يعود بشر أكثر من الجريمة نفسها. فالجسم الحي يملك القدرة على التكيف السريع والتعود والتأقلم مع أي وسط، وإلا لكان على الإنسان أن يشعر في كل لحظة بمدى انعدام الحكمة في أساس نشاطه الحكيم، وبضآلة الحقيقة المستوعبة والثقة، حتى في تلك الأنشطة المسئولة وذات الآثار الخطيرة كالنشاط التربوي، والقانوني والأدبي...
أخذت مثل هذه الأفكار الخفيفة الغائمة، والتي لا تراود إلا الذهن المتعب ساعة الراحة، تدور في رأس يفجيني بتروفتش. كانت تظهر من حيث لا يعرف ولسبب لا يدريه ، وتبقى في رأسه قليلاً، ويبدو وكأنها تزحف فوق المخ دون أن تغوص عميقاً فيه. وبالنسبة للأشخاص الذين يتوجب عليهم أن يفكروا بطريقة رسمية، وفي اتجاه واحد لساعات طويلة وربما لأيام، تمثل مثل هذه الأفكار المنزلية الحرة نوعاً من الراحة والاستجمام اللذيذ.
كانت الساعة حوالي التاسعة مساء. وفوق غرفة المكتب، في الطابق الثاني، وراء السقف، كان شخص ما يسير من ركن لركن، وأعلى من ذلك، في الطابق الثالث تردد عزف ثنائي على البيانو. وأضفت خطوات ذلك الشخص الذي كان ، حسبما بدا من مشيته العصبية، يعذبه التفكير، أو يعاني من ألم في أسنانه، والانغام الرتيبة، أضفت على هدوء المساء جوا ناعساً يبعث على الاستسلام للتفكير الكسول. وعبر غرفتين تناهى حديث المربية مع سيريوجا وفي غرفة الأطفال.
وأخذ الصبي يغني:
- با...با وصل ! با ... با وصـ ... ـل ! با ... با ... با !
وصرخت المربية بصوت رفيع كطائر مذعور:
Votre pere vous appelle, allez vite! * إنني أخاطبك!
وقال يفجيني بتروفتش لنفسه: "ولكن ماذا أقول له؟"
وقبل أن يهتدي إلى شيء دخل غرفة المكتب ابنه سيريوجا، الصبي ذو السبعة أعوام. كان شخصاً لا يمكن الحكم على جنسه سوى من ملبسه... قليل الحجم، شاحب الوجه، هشاً... كان ذابل الجسم مثل نبات دفيئة، وبدا كل شيء فيه رقيقاً وناعماً جداً: حركاته، وشعره المجعد الخصلات، ونظرته، وسترته المخملية.
وقال بصوت ناعم وهو يعتلي ركبتي أبيه ويقبله في عنقه بسرعة:
- مرحبا يا بابا! هل دعوتني؟
فأجاب وكيل النيابة وهو ينحيه عنه:
- اسمح لي، اسمح لي يا سيرجي يفجينيتش** قبل القبلات ينبغي علينا أن نتحدث، ونتحدث بجدية... انني غاضب منك ولم أعد أحبك.. نعم، فلتعلم يا أخي أنني لا أحبك، وانك لست ابني.. نعم.
تطلع سيريوجا إلى أبيه باهتمام، ثم حول نظره إلى الطاولة وهز كتفيه.
ثم سأل بدهشة وعيناه تطرفان:
- وماذا فعلت لك؟ أنا لم أدخل مكتبك اليوم ولا مرة، ولم ألمس شيئاً.
- اشتكت لي نتاليا سيميونوفنا الآن من أنك تدخن.. هل هذا صحيح؟ هل تدخن؟
- نعم، دخنت مرة.. هذا صحيح!
فقال وكيل النيابة عابساً ليخفي ابتسامته:
- انظر، ها أنت فوق ذلك تكذب. لقد رأتك نتاليا سيميونوفنا تدخن مرتين. إذن فأنت قد ضبطت متلبساً بثلاثة أعمال سيئة: فأنت تدخن، وتأخذ تبغاً ليس لك من المكتب، وتكذب. ثلاثة ذنوب!
فقال سيريوجا متذكراً بينما ابتسمت عيناه:
- آه ، نعم! هذا صحيح، صحيح! أنا دخنت مرتين: اليوم ومن قبل.
- هل رأيت؟ إذن مرتين وليس مرة واحدة.. أنا غير راض عنك أبداً، أبداً! كنت صبياً طيباً من قبل، أما الآن فأرى أنك فسدت واصبحت سيئاً.
وسوى يفجيني بتروفيتش ياقة سيريوجا وفكر:
" ماذا أقول له بعد؟"
ثم استطرد يخاطبه:
- نعم، هذا أمر سيء. لم أكن أتوقع ذلك منك. فأولاً، لا يحق لك أن تأخذ تبغاً ليس ملكك. من حق كل انسان أن يستخدم فقط ما يملكه، أما اذا استولى على ما ليس له فهو.. فهو انسان سيء! (وفكر يفجيني بتروفتش: "ليس هذا هو المطلوب قوله!") فمثلا نتاليا سيميونوفنا عندها صندوق ملابس. إنه صندوقها، ولا يحق لنا، أقصد أنا وأنت، أن نمسه، لأنه ليس صندوقنا. أليس كذلك؟ وأنت لديك لعب وصور.. وأنا لا أستولي عليها، أليس كذلك؟ ربما كنت أريد أن أستولي عليها.. ولكنها ليست لي، بل لك!
فقال سيريوجا وقد رفع حاجبيه:
- خذها اذا كنت تريد! لا تخجل يا بابا من فضلك، خذها! هذا الكلب الأصفر على مكتبك هو كلبي، ولكني لا أقول شيئاً.. فليبق على مكتبك!
فقال بيكوفسكي:
- أنت لا تفهمني. هذا الكلب أنت أهديتنيه. فهو الآن ملكي، وبوسعي أن أفعل به ما أريد. ولكني لم أعطك التبغ ! التبغ ملكي أنا! (وفكر وكيل النيابة: "ليس هذا ما ينبغي أن أوضحه! ليس هذا أبدا!") ولو أردت أنا أن أدخن تبغاً ليس لي، فعلّي قبل كل شيء أن أستأذن ...
أخذ بيكوفسكي يشرح لابنه ما معنى الملكية، وهو يشبك العبارة بالعبارة في كسل ويتصنع لهجة الأطفال. وكان سيريوجا يصغي إليه باهتمام وهو يحدق في صدره (كان يحب التحدث مع أبيه في أوقات المساء)، ثم اتكأ على طرف المكتب وزر عينيه القصيرتي النظر محدقا في الأوراق والمحبرة. وطافت نظراته على المكتب ثم توقفت على زجاجة صمغ عربي.
وسأل فجأة وهو يقرب الزجاجة من عينيه:
- بابا ، ممّ يصنع الصمغ ؟
فأخذ بيكوفسكي الزجاجة منه ووضعها في مكانها، وأكمل:
- وثانيا أنت تدخن... وهذا شيء سيء جداً ! فإذا كنت أنا أدخن فهذا لا يعني أبداً أن التدخين مسموح به. أنا أدخن وأعرف أن ذلك ليس من الحكمة، وأوبخ نفسي ولا أحبها بسبب ذلك... (وفكر بيكوفسكي: "يا لي من مرب مكار!"). – التبغ ضار جدا بالصحة، ومن يدخن يموت مبكرا. والتدخين ضار بصفة خاصة بالصغار أمثالك. فصدرك ضعيف، وأنت لم تصبح قويا بعد، والتدخين يصيب الضعفاء بالسل وغيره من الأمراض. عمك اجناتي مثلا مات بالسل. لو لم يكن يدخن فربما عاش حتى اليوم.
تطلع سيريوجا مفكراً إلى المصباح، وتحسس الاباجورة باصبعه وتنهد.
وقال:
- كان عمي أجناتي يعزف جيدا على المكان! كمانه الآن عند آل جريجوريف!
واتكأ سيريوجا ثانية على طرف المكتب واستغرق في التفكير. وعلى وجهه الشاحب استقر تعبير وكأنما كان يصغي أو يتابع سير أفكاره الخاصة. وبدا في عينيه الواسعتين اللتين لا تطرفان حزن أو شيء أشبه بالذعر. ربما كان يفكر الآن في الموت الذي اختطف منذ زمن قريب أمه وعمه اجناتي. فالموت يحمل إلى العالم الآخر الأمهات والأعمام، بينما يبقى أولادهم وكماناتهم على الأرض. ويعيش الموتى في السماء، في مكان ما قرب النجوم، وينظرون من هناك إلى الأرض. ترى هل يتحملون ألم الفراق؟
وفكر يفجيني بتروفتش: "ماذا أقول له؟ إنه لا يصغي إلي.. يبدو أنه لا يعير أهمية لا لذنوبه ولا لحججي. كيف أقنعه؟"
ونهض وكيل النيابة وأخذ يذرع غرفة المكتب. وراح يفكر: "في الماضي، على أيامي، كانت هذه المسائل تحل بمنتهى البساطة: كانوا يجلدون الصبي المتلبس بالتدخين. وكان الجبناء وضعفاء القلوب يقلعون فعلا عن التدخين. أما الأكثر شجاعة وذكاء فكانوا، بعد العلقة، يخبئون التبغ في رقبة الحذاء العالي ويدخنون في الحظيرة. وعندما يضبطون الصبي في الحظيرة ويجلدونه ثانية، كان يذهب إلى شاطئ النهر ليدخن... وهكذا دواليك حتى يكبر. كانت أمي تغدق عليّ النقود والحلوى حتى لا أدخن. أما الآن فتعتبر هذه الوسائل تافهة ولا أخلاقية. فالمربي الحديث، وقد تسلح بالمنطق، يحاول أن يجعل الطفل يتقبل المبادئ الخيرة لا بدافع الخوف أو الرغبة في التميز أو طمعاً في مكافأة، بل عن وعي".
وبينما كان يتمشى ويفكر، اعتلى سيريوجا الكرسي الموضوع بجوار المكتب وبدأ يرسم. وحتى لا يلوث الأوراق الرسمية ويعبث بالمحبرة وضعت على المكتبة رزمة من الورق المقصوص خصصياً له وقلم أزرق.
وقال وهو يرسم بيتاً ويلعّب حاجبيه:
- جرحت الطباخة اليوم اصبعها عندما كانت تخرط الكرنب. وصرخت عاليا لدرجة أننا خفنا جميعا وركضنا إلى المطبخ. أما غبية! نصحتها نتاليا سيميونوفنا بأن تبلل اصبعها بالماء البارد، لكنها أخذت تمصه... كيف يمكن أن تضع في فمها هذا الاصبع القذر؟ أليس هذا عيبا يا بابا ؟
ثم روى بعد ذلك أنه أثناء الغداء أتى إلى الفناء عازف جوال ومعه فتاة كانت تغني وترقص على أنغام الموسيقى.
وفكر وكيل النيابة: "ان لديه تيار أفكاره الخاصة! لديه في رأسه عالمه الصغير الخاص، وبطريقته الخاصة يعرف ما هو المهم وغير المهم. ولا يكفي للاستحواذ على انتباهه وادراكه أن تتصنع لهجته، وانما ينبغي كذلك أن تعرف كيف تفكر بطريقته. كان من الممكن أن يفهمني تماما لو انني بالفعل كنت آسفاً على التبغ، لو انني غضبت وبكيت.. ولهذا فالأمهات لا غنى عنهن في التربية لانهن قادرات على الاحساس بما يحس به الأطفال، وعلى البكاء والضحك معهم... ولن تصل إلى شيء بالمنطق والوعظ. حسناً، فماذا أقول له؟ ماذا؟"
وبدا ليفجيني بتروفتش غريبا ومضحكا انه، وهو القانوني المحنك، والذي قضى نصف عمره في التمرس بشتى أنواع المنع والانذار والعقوبة، أصبح مرتبكا تماما ولا يعرف ماذا يقول للصبي.
وأخيرا قال:
- اسمع ، اعطني كلمة شرف بأنك لن تدخن بعد الآن.
فقال سيريوجا مغنيا، وهو يضغط بشدة على القلم وينحني فوق الرسم:
- كلـ .. مة شر .. ف ! كلـ .. مـ .. ة شر .. ف ! رف .. رف ..
وسأل بيكوفسكي نفسه: "وهل هو يعرف ما معنى كلمة شرف؟ كلا، انني مرب سيئ. لو أن أحدا من المربين أو من زملائي القضاة أطل الآن في رأسي لاعتبرني خرقة، بل وربما اتهمني بالافراط في التحذلق... ولكن المشكلة ان كل هذه القضايا الخبيثة تحل في المدرسة أو المحكمة على نحو أبسط بكثير مما في البيت. فأنت هنا تتعامل مع مخلوقات تحبها بجنون، والحب يفرض متطلباته ويعقد المسألة. لو لم يكن هذا الصبي ابني، لو كان تلميذي أو أحد المتهمين لما ترددت هكذا، ولما تشتتت أفكاري!.."
جلس يفجيني بتروفتش إلى المكتب وتناول أحد رسومات سيريوجا. كان الرسم يصور منزلا بسقف معوج ودخانا يتصاعد من المدخنة حتى طرف الورقة على شكل تعرجات حادة كالبرق. وبجوار المنزل وقف جندي يحمل بندقية بحربة على شكل رقم (4)، وبنقطتين بدلا من العينين.
وقال وكيل النيابة:
- الانسان لا يمكن أن يكون أعلى من المنزل. انظر .. السقف لديك يصل إلى كتف الجندي.
وتسلق سيريوجا ركبتيه وظل يتحرك طويلا ليتخذ وضعا مريحا.
وقال بعد أن تامل رسمه:
- لا يا بابا ! لو رسمت الجندي صغيرا فلن تظهر عيناه. فهل كان عليه أن يجادله؟ لقد اقتنع وكيل النيابة من واقع ملاحظاته اليومية لابنه أن لدى الأطفال، مثلما لدى الأقوام المتوحشة، نظرتهم الفنية الخاصة ومتطلباتهم المتميزة التي تستعصي على فهم الكبار. وربما لو راقب أحد الكبار سيريوجا بانتباه لبدا له صبيا شاذا. فقد كان يعتبر من الممكن والمعقول أن يرسم الناس أعلى من المنازل، ويعبر بالقلم، إلى جانب الأشياء، عن أحاسيسه الخاصة. فقد كان يصور مثلا أنغام الاوركسترا على شكل بقع دخانية دارية، ويصور الصغير على شكل خيط لولبي.. كان الصوت في مفهومه يرتبط ارتباطا وثيقا بالشكل واللون، فعندما يلون الحروف كان دائما يصبغ حرف (اللام) باللون الأصفر، وحرف (الميم) باللون الأحمر، وحرف (الألف) باللون الأسود، وهلم جرا.
وألقى سيريوجا بالرسم وتململ في جلسته ثانية متخذا وضعا مريحا، ثم راح يعبث بلحية أبيه. في البداية مسدها بعناية ، ثم فرق شعرها وأخذ يمشطه ليجعله مثل السوالف.
ودمدم:
- الآن أصبحت تشبه ايفان ستيبانوفتش. أما الآن فتشبه.. بوابنا. بابا، لماذا يقف البوابون بجوار الأبواب؟ لكي يمنعوا اللصوص من الدخول؟
أحس وكيل النيابة بأنفاس سيريوجا على وجهه، وكان خده يلمس شعره بين الحين والحين، فأحس في قلبه بدفء ونعومة، كأنما لم تكن يداه فحسب بل وروحه كلها تستلقي على مخمل سترة سيريوجا. وحدق في عيني الصبي الواسعتين السوداوين، فخيل إليه أنه قد أطلت عليه من الحدقتين الواسعتين أمه وزوجته وكل من أحبهم في يوم ما.
وقال في نفسه: "فلتحاول إذن أن تجلده.. هيا ابتكر عقابا لو استطعت ! كلا، أين نحن من المربين. قبلا كان الناس بسطاء، يفكرون أقل، ولذلك كانوا يحسمون القضايا بجرأة.. أما نحن فنفكر أكثر من اللازم، والمنطق قد اغرقنا تماما.. كلما كان الانسان أكثر تطورا وتفكيرا وغوصا في دقائق الأمور ، أصبح أقل جرأة وأكثر وسوسة، واشد وجلا في التصدي للمسألة. وبالفعل، لو أمعنا التفكير، فأية شجاعة وثقة في النفس ينبغي أن تكون لدى المرء لكي يقدم على تعليم الآخرين، والحكم عليهم، وتأليف الكتب السميكة..".
ودقت الساعة العاشرة.
فقال وكيل النيابة:
- حسناً يا بني، حان وقت النوم. ودعني وانصرف.
فعبس سيريوجا وقال:
- لا يا بابا. سأبقى قليلا. احك لي شيئا . احك لي حكاية!
- طيب، لكن بعد الحكاية ستذهب إلى الفراش فورا.
كان من عادة يفجيني بتروفتش في الامسيات الخالية أن يحكي الحكايات لسيريوجا. ومثل معظم الاشخاص العمليين لم يكن يحفظ قصيدة شعر واحدة، ولا يذكر حكاية واحدة، ولهذا كان يلجأ إلى الارتجال في كل مرة. وفي العادة كان يبدأ بالعبارة التقليدية: "كان يا ما كان، في سالف العصر والأوان"، ثم يحشد كمّا من الهراء البرئ ولا يعرف أبدا عندما يبدأ كيف سيكون وسط الحكاية ونهايتها. كان يعتمد على الحظ والبديهة في رسم الصور والأشخاص والظروف. أما الموضوع والموعظة فينبثقان تلقائيا، دون علاقة بارادة الراوي. وكان سيريوجا يهوى كثيرا هذه القصص المرتجلة، ولاحظ وكيل النيابة أنه كلما جاء الموضوع بسيطا دون تعقيد، كان تأثيره على الصبي أقوى.
وبدأ يحكي وقد رفع نظره إلى السقف:
- اسمع ... كان يا ما كان، في سالف العصر والاوان، كان هناك ملك عجوز عجوز، بلحية شيباء طويلة و ... وبشوارب هائلة. وكان يعيش في قصر زجاجي يلمع ويتلألأ في الشمس مثل قطعة كبيرة من الجليد النقي. أما القصر يا أخي فكان وسط حديقة ضخمة، حيث كانت تنمو ماذا؟.. أشجار البرتقال.. والكمثري.. والكرز.. وتزهر أزهار الأقحوان، والورود، والسوسن، وتنشد الطيور الزاهية الألوان... نعم.. وكانت تتدلى من الاشجار أجراس زجاجية صغيرة، وعندما تهب الريح، ترن بصوت رقيق، يخلب الألباب. فالزجاج يصدر صوتا أرق وأنعم من المعدن.. حسناً، وماذا كان هناك أيضاً؟ كانت النافورات تتدفق في الحديقة... أتذكر النافورة التي رأيتها في دار خالتك سونيا الريفية؟ مثلها بالضبط كانت النوافير في حديقة الملك، ولكنها أكبر بكثير، وكانت تيارات الماء المتدفقة منها تصل إلى قمة أعلى شجرة حور...
وفكر يفجيني بتروفتش قليلا ثم استطرد:
- وكان لدى الملك العجوز ابن وحيد، هو وريث العرش والمملكة . كان صبيا صغيرا هكذا مثلك. وكان ولدا طيبا. لم يكن يتدلل ابدا، وكان ينام مبكرا، ولا يلمس شيئا على المكتب... وعموما كان ولدا شاطرا. لم يكن يعيبه الا شي واحد: لقد كان يدخن...
أصغى سيريوجا بتركيز وهو يحدق في عيني أبيه بعينين لا تطرفان . ومضى وكيل النيابة يحكي وهو يفكر: "وماذا بعد؟" وبعد أن لت وعجن كثيرا، كما يقال، انهى الحكاية هكذا:
- ومن التدخين مرض ولي العهد بالسل ومات وهو في العشرين من عمره. وأصبح الملك العجوز، المريض المهدم، بلا معين. ولم يعد هناك من يرعى شئون المملكة ويحمي القصر. فجاء الأعداء وقتلوا الملك العجوز، وهدموا القصر، ولم يعد فيه الان كرز أو طيور أو أجراس... هكذا يا أخي...
بدت هذه النهاية ليفجيني بتروفتش نفسه مضحكة وساذجة، إلا أن الحكاية بمجملها تركت في نفس سيريوجا أثرا قويا. وعاد الحزن وشيء أشبه بالرعب يلف عينيه. وظل حوالي دقيقة يحدق في النافذة المظلمة وهو مستغرق في التفكير، ثم انتفض وقال بصوت متهدج:
- لن أدخن مرة ثانية...
وبعد أن ودع أباه وانصرف لينام، أخذ الأب يذرع الغرفة بهدوء من ركن لركن وهو يبتسم.
وفكر في نفسه: "قد يقال أن ما أثّر عليه هو الجمال والشكل الفني. فليكن، ولكن هذا ليس بشيء مطمئن. انه مع ذلك ليس وسيلة حقيقة... لماذا ينبغي تقديم الموعظة والحقيقة ليس بصورتهما المجردة، النيئة، بل بالخلطات، وبقشرة سكرية مذهبة كحبات الدواء؟ ليس هذا طبيعيا.. انه خداع ، تزوير.. تحايل.."
وتذكر القضاة المحلفين، الذين لا بد أن تسمعهم "خطبة عصماء" ، وعامة الناس الذين لا يستوعبون التاريخ الا من خلال الملاحم والسير والروايات التاريخية، وتذكر نفسه، هو الذي استقى خبرة الحياة لا من المواعظ والقوانين، بل من الحكايات والروايات والاشعار...
"ينبغي أن يكون الدواء حلوا، والحقيقة جميلة.. وهذه النزوة قد أباحها الانسان لنفسه منذ عهد آدم.. وعموما.. ربما كان كل ذلك طبيعيا وهكذا ينبغي للأمور أن تكون... وهل تخلو الطبيعة من الخداع المفيد والأوهام...".
وشرع يعمل، بينما ظلت الأفكار المنزلية الكسولة تهوم في رأسه طويلا. ولم تعد أنغام العزف تسمع ولكن ساكن الطابق الثاني ظل يخطو من ركن لركن...
كان يفجيني بتروفتش بيكوفسكي وكيل نيابة الناحية، قد عاد لتوه من جلسة المحكمة وفرغ من نزع قفازه في غرفة مكتبه، فنظر إلى المربية التي كانت تبلغه هذا التقرير وضحك.
وقال وهو يهز كتفيه:
- سيريوجا يدخن... إنني أتخيل منظر هذا الصغير والسيجارة في فمه! ولكن كم عمره؟
- في السابعة. قد يبدو لكم هذا غير جدي، ولكن التدخين في سنه عادة سيئة ومضرة، والعادات السيئة ينبغي القضاء عليها في بدايتها.
- أنت على حق تماما. ومن أين يحصل على التبغ؟
- من درج مكتبكم.
- حقاً؟ في هذه الحالة أرسليه إليّ.
وبعد انصراف المربية جلس بيكوفسكي في المقعد أمام مكتبه، وأغمض عينيه، وراح يفكر. ولسبب ما رسم في خياله صورة لابنه سيريوجا وفي فمه سيجارة ضخمة طويلة، وتلفه سحب دخان السجائر، فجعلته هذه الصورة الكاريكاتيرية يبتسم. وفي الوقت نفسه آثار وجه المربية الجاد المهموم في نفسه ذكريات الماضي البعيد، المنسي تقريبا، عندما كان التدخين في المدرسة أو في غرفة الأطفال يثير في نفوس المدرسين والآباء رعباً غريباً، غير مفهوم تقريبا. كان ذلك رعبا بالفعل. وكانوا يضربون الأولاد بقسوة، ويفصلونهم من المدرسة، ويفسدون عليهم مستقبلهم، رغم أن أحداً من المدرسين أو الآباء لم يكن يعلم بالضبط ما هو الضرر من التدخين وما هي الجريمة في ذلك. وحتى أذكى الأشخاص لم يترددوا في مكافحة الرذيلة التي لم يكونوا يفهمونها. وتذكر يفجيني بتروفيتش ناظر مدرسته، ذلك العجوز المثقف جداً والطيب القلب والذي كان يتملكه الرعب إلى درجة الشحوب عندما يضبط تلميذاً يدخن، فيجمع على الفور مجلس المربين ويحكم على المذنب بالفصل. يبدو أن تلك هي طبيعة قانون الحياة المشتركة: فكلما ازداد الشر غموضاً أصبحت مقاومته أكثر ضراوة وفظاظة.
وتذكر وكيل النيابة اثنين أو ثلاثة من المفصولين، وتابع مجرى حياتهم بعد ذلك، فلم يستطع أن يمنع نفسه من التفكير بأن العقاب كثيراً ما يعود بشر أكثر من الجريمة نفسها. فالجسم الحي يملك القدرة على التكيف السريع والتعود والتأقلم مع أي وسط، وإلا لكان على الإنسان أن يشعر في كل لحظة بمدى انعدام الحكمة في أساس نشاطه الحكيم، وبضآلة الحقيقة المستوعبة والثقة، حتى في تلك الأنشطة المسئولة وذات الآثار الخطيرة كالنشاط التربوي، والقانوني والأدبي...
أخذت مثل هذه الأفكار الخفيفة الغائمة، والتي لا تراود إلا الذهن المتعب ساعة الراحة، تدور في رأس يفجيني بتروفتش. كانت تظهر من حيث لا يعرف ولسبب لا يدريه ، وتبقى في رأسه قليلاً، ويبدو وكأنها تزحف فوق المخ دون أن تغوص عميقاً فيه. وبالنسبة للأشخاص الذين يتوجب عليهم أن يفكروا بطريقة رسمية، وفي اتجاه واحد لساعات طويلة وربما لأيام، تمثل مثل هذه الأفكار المنزلية الحرة نوعاً من الراحة والاستجمام اللذيذ.
كانت الساعة حوالي التاسعة مساء. وفوق غرفة المكتب، في الطابق الثاني، وراء السقف، كان شخص ما يسير من ركن لركن، وأعلى من ذلك، في الطابق الثالث تردد عزف ثنائي على البيانو. وأضفت خطوات ذلك الشخص الذي كان ، حسبما بدا من مشيته العصبية، يعذبه التفكير، أو يعاني من ألم في أسنانه، والانغام الرتيبة، أضفت على هدوء المساء جوا ناعساً يبعث على الاستسلام للتفكير الكسول. وعبر غرفتين تناهى حديث المربية مع سيريوجا وفي غرفة الأطفال.
وأخذ الصبي يغني:
- با...با وصل ! با ... با وصـ ... ـل ! با ... با ... با !
وصرخت المربية بصوت رفيع كطائر مذعور:
Votre pere vous appelle, allez vite! * إنني أخاطبك!
وقال يفجيني بتروفتش لنفسه: "ولكن ماذا أقول له؟"
وقبل أن يهتدي إلى شيء دخل غرفة المكتب ابنه سيريوجا، الصبي ذو السبعة أعوام. كان شخصاً لا يمكن الحكم على جنسه سوى من ملبسه... قليل الحجم، شاحب الوجه، هشاً... كان ذابل الجسم مثل نبات دفيئة، وبدا كل شيء فيه رقيقاً وناعماً جداً: حركاته، وشعره المجعد الخصلات، ونظرته، وسترته المخملية.
وقال بصوت ناعم وهو يعتلي ركبتي أبيه ويقبله في عنقه بسرعة:
- مرحبا يا بابا! هل دعوتني؟
فأجاب وكيل النيابة وهو ينحيه عنه:
- اسمح لي، اسمح لي يا سيرجي يفجينيتش** قبل القبلات ينبغي علينا أن نتحدث، ونتحدث بجدية... انني غاضب منك ولم أعد أحبك.. نعم، فلتعلم يا أخي أنني لا أحبك، وانك لست ابني.. نعم.
تطلع سيريوجا إلى أبيه باهتمام، ثم حول نظره إلى الطاولة وهز كتفيه.
ثم سأل بدهشة وعيناه تطرفان:
- وماذا فعلت لك؟ أنا لم أدخل مكتبك اليوم ولا مرة، ولم ألمس شيئاً.
- اشتكت لي نتاليا سيميونوفنا الآن من أنك تدخن.. هل هذا صحيح؟ هل تدخن؟
- نعم، دخنت مرة.. هذا صحيح!
فقال وكيل النيابة عابساً ليخفي ابتسامته:
- انظر، ها أنت فوق ذلك تكذب. لقد رأتك نتاليا سيميونوفنا تدخن مرتين. إذن فأنت قد ضبطت متلبساً بثلاثة أعمال سيئة: فأنت تدخن، وتأخذ تبغاً ليس لك من المكتب، وتكذب. ثلاثة ذنوب!
فقال سيريوجا متذكراً بينما ابتسمت عيناه:
- آه ، نعم! هذا صحيح، صحيح! أنا دخنت مرتين: اليوم ومن قبل.
- هل رأيت؟ إذن مرتين وليس مرة واحدة.. أنا غير راض عنك أبداً، أبداً! كنت صبياً طيباً من قبل، أما الآن فأرى أنك فسدت واصبحت سيئاً.
وسوى يفجيني بتروفيتش ياقة سيريوجا وفكر:
" ماذا أقول له بعد؟"
ثم استطرد يخاطبه:
- نعم، هذا أمر سيء. لم أكن أتوقع ذلك منك. فأولاً، لا يحق لك أن تأخذ تبغاً ليس ملكك. من حق كل انسان أن يستخدم فقط ما يملكه، أما اذا استولى على ما ليس له فهو.. فهو انسان سيء! (وفكر يفجيني بتروفتش: "ليس هذا هو المطلوب قوله!") فمثلا نتاليا سيميونوفنا عندها صندوق ملابس. إنه صندوقها، ولا يحق لنا، أقصد أنا وأنت، أن نمسه، لأنه ليس صندوقنا. أليس كذلك؟ وأنت لديك لعب وصور.. وأنا لا أستولي عليها، أليس كذلك؟ ربما كنت أريد أن أستولي عليها.. ولكنها ليست لي، بل لك!
فقال سيريوجا وقد رفع حاجبيه:
- خذها اذا كنت تريد! لا تخجل يا بابا من فضلك، خذها! هذا الكلب الأصفر على مكتبك هو كلبي، ولكني لا أقول شيئاً.. فليبق على مكتبك!
فقال بيكوفسكي:
- أنت لا تفهمني. هذا الكلب أنت أهديتنيه. فهو الآن ملكي، وبوسعي أن أفعل به ما أريد. ولكني لم أعطك التبغ ! التبغ ملكي أنا! (وفكر وكيل النيابة: "ليس هذا ما ينبغي أن أوضحه! ليس هذا أبدا!") ولو أردت أنا أن أدخن تبغاً ليس لي، فعلّي قبل كل شيء أن أستأذن ...
أخذ بيكوفسكي يشرح لابنه ما معنى الملكية، وهو يشبك العبارة بالعبارة في كسل ويتصنع لهجة الأطفال. وكان سيريوجا يصغي إليه باهتمام وهو يحدق في صدره (كان يحب التحدث مع أبيه في أوقات المساء)، ثم اتكأ على طرف المكتب وزر عينيه القصيرتي النظر محدقا في الأوراق والمحبرة. وطافت نظراته على المكتب ثم توقفت على زجاجة صمغ عربي.
وسأل فجأة وهو يقرب الزجاجة من عينيه:
- بابا ، ممّ يصنع الصمغ ؟
فأخذ بيكوفسكي الزجاجة منه ووضعها في مكانها، وأكمل:
- وثانيا أنت تدخن... وهذا شيء سيء جداً ! فإذا كنت أنا أدخن فهذا لا يعني أبداً أن التدخين مسموح به. أنا أدخن وأعرف أن ذلك ليس من الحكمة، وأوبخ نفسي ولا أحبها بسبب ذلك... (وفكر بيكوفسكي: "يا لي من مرب مكار!"). – التبغ ضار جدا بالصحة، ومن يدخن يموت مبكرا. والتدخين ضار بصفة خاصة بالصغار أمثالك. فصدرك ضعيف، وأنت لم تصبح قويا بعد، والتدخين يصيب الضعفاء بالسل وغيره من الأمراض. عمك اجناتي مثلا مات بالسل. لو لم يكن يدخن فربما عاش حتى اليوم.
تطلع سيريوجا مفكراً إلى المصباح، وتحسس الاباجورة باصبعه وتنهد.
وقال:
- كان عمي أجناتي يعزف جيدا على المكان! كمانه الآن عند آل جريجوريف!
واتكأ سيريوجا ثانية على طرف المكتب واستغرق في التفكير. وعلى وجهه الشاحب استقر تعبير وكأنما كان يصغي أو يتابع سير أفكاره الخاصة. وبدا في عينيه الواسعتين اللتين لا تطرفان حزن أو شيء أشبه بالذعر. ربما كان يفكر الآن في الموت الذي اختطف منذ زمن قريب أمه وعمه اجناتي. فالموت يحمل إلى العالم الآخر الأمهات والأعمام، بينما يبقى أولادهم وكماناتهم على الأرض. ويعيش الموتى في السماء، في مكان ما قرب النجوم، وينظرون من هناك إلى الأرض. ترى هل يتحملون ألم الفراق؟
وفكر يفجيني بتروفتش: "ماذا أقول له؟ إنه لا يصغي إلي.. يبدو أنه لا يعير أهمية لا لذنوبه ولا لحججي. كيف أقنعه؟"
ونهض وكيل النيابة وأخذ يذرع غرفة المكتب. وراح يفكر: "في الماضي، على أيامي، كانت هذه المسائل تحل بمنتهى البساطة: كانوا يجلدون الصبي المتلبس بالتدخين. وكان الجبناء وضعفاء القلوب يقلعون فعلا عن التدخين. أما الأكثر شجاعة وذكاء فكانوا، بعد العلقة، يخبئون التبغ في رقبة الحذاء العالي ويدخنون في الحظيرة. وعندما يضبطون الصبي في الحظيرة ويجلدونه ثانية، كان يذهب إلى شاطئ النهر ليدخن... وهكذا دواليك حتى يكبر. كانت أمي تغدق عليّ النقود والحلوى حتى لا أدخن. أما الآن فتعتبر هذه الوسائل تافهة ولا أخلاقية. فالمربي الحديث، وقد تسلح بالمنطق، يحاول أن يجعل الطفل يتقبل المبادئ الخيرة لا بدافع الخوف أو الرغبة في التميز أو طمعاً في مكافأة، بل عن وعي".
وبينما كان يتمشى ويفكر، اعتلى سيريوجا الكرسي الموضوع بجوار المكتب وبدأ يرسم. وحتى لا يلوث الأوراق الرسمية ويعبث بالمحبرة وضعت على المكتبة رزمة من الورق المقصوص خصصياً له وقلم أزرق.
وقال وهو يرسم بيتاً ويلعّب حاجبيه:
- جرحت الطباخة اليوم اصبعها عندما كانت تخرط الكرنب. وصرخت عاليا لدرجة أننا خفنا جميعا وركضنا إلى المطبخ. أما غبية! نصحتها نتاليا سيميونوفنا بأن تبلل اصبعها بالماء البارد، لكنها أخذت تمصه... كيف يمكن أن تضع في فمها هذا الاصبع القذر؟ أليس هذا عيبا يا بابا ؟
ثم روى بعد ذلك أنه أثناء الغداء أتى إلى الفناء عازف جوال ومعه فتاة كانت تغني وترقص على أنغام الموسيقى.
وفكر وكيل النيابة: "ان لديه تيار أفكاره الخاصة! لديه في رأسه عالمه الصغير الخاص، وبطريقته الخاصة يعرف ما هو المهم وغير المهم. ولا يكفي للاستحواذ على انتباهه وادراكه أن تتصنع لهجته، وانما ينبغي كذلك أن تعرف كيف تفكر بطريقته. كان من الممكن أن يفهمني تماما لو انني بالفعل كنت آسفاً على التبغ، لو انني غضبت وبكيت.. ولهذا فالأمهات لا غنى عنهن في التربية لانهن قادرات على الاحساس بما يحس به الأطفال، وعلى البكاء والضحك معهم... ولن تصل إلى شيء بالمنطق والوعظ. حسناً، فماذا أقول له؟ ماذا؟"
وبدا ليفجيني بتروفتش غريبا ومضحكا انه، وهو القانوني المحنك، والذي قضى نصف عمره في التمرس بشتى أنواع المنع والانذار والعقوبة، أصبح مرتبكا تماما ولا يعرف ماذا يقول للصبي.
وأخيرا قال:
- اسمع ، اعطني كلمة شرف بأنك لن تدخن بعد الآن.
فقال سيريوجا مغنيا، وهو يضغط بشدة على القلم وينحني فوق الرسم:
- كلـ .. مة شر .. ف ! كلـ .. مـ .. ة شر .. ف ! رف .. رف ..
وسأل بيكوفسكي نفسه: "وهل هو يعرف ما معنى كلمة شرف؟ كلا، انني مرب سيئ. لو أن أحدا من المربين أو من زملائي القضاة أطل الآن في رأسي لاعتبرني خرقة، بل وربما اتهمني بالافراط في التحذلق... ولكن المشكلة ان كل هذه القضايا الخبيثة تحل في المدرسة أو المحكمة على نحو أبسط بكثير مما في البيت. فأنت هنا تتعامل مع مخلوقات تحبها بجنون، والحب يفرض متطلباته ويعقد المسألة. لو لم يكن هذا الصبي ابني، لو كان تلميذي أو أحد المتهمين لما ترددت هكذا، ولما تشتتت أفكاري!.."
جلس يفجيني بتروفتش إلى المكتب وتناول أحد رسومات سيريوجا. كان الرسم يصور منزلا بسقف معوج ودخانا يتصاعد من المدخنة حتى طرف الورقة على شكل تعرجات حادة كالبرق. وبجوار المنزل وقف جندي يحمل بندقية بحربة على شكل رقم (4)، وبنقطتين بدلا من العينين.
وقال وكيل النيابة:
- الانسان لا يمكن أن يكون أعلى من المنزل. انظر .. السقف لديك يصل إلى كتف الجندي.
وتسلق سيريوجا ركبتيه وظل يتحرك طويلا ليتخذ وضعا مريحا.
وقال بعد أن تامل رسمه:
- لا يا بابا ! لو رسمت الجندي صغيرا فلن تظهر عيناه. فهل كان عليه أن يجادله؟ لقد اقتنع وكيل النيابة من واقع ملاحظاته اليومية لابنه أن لدى الأطفال، مثلما لدى الأقوام المتوحشة، نظرتهم الفنية الخاصة ومتطلباتهم المتميزة التي تستعصي على فهم الكبار. وربما لو راقب أحد الكبار سيريوجا بانتباه لبدا له صبيا شاذا. فقد كان يعتبر من الممكن والمعقول أن يرسم الناس أعلى من المنازل، ويعبر بالقلم، إلى جانب الأشياء، عن أحاسيسه الخاصة. فقد كان يصور مثلا أنغام الاوركسترا على شكل بقع دخانية دارية، ويصور الصغير على شكل خيط لولبي.. كان الصوت في مفهومه يرتبط ارتباطا وثيقا بالشكل واللون، فعندما يلون الحروف كان دائما يصبغ حرف (اللام) باللون الأصفر، وحرف (الميم) باللون الأحمر، وحرف (الألف) باللون الأسود، وهلم جرا.
وألقى سيريوجا بالرسم وتململ في جلسته ثانية متخذا وضعا مريحا، ثم راح يعبث بلحية أبيه. في البداية مسدها بعناية ، ثم فرق شعرها وأخذ يمشطه ليجعله مثل السوالف.
ودمدم:
- الآن أصبحت تشبه ايفان ستيبانوفتش. أما الآن فتشبه.. بوابنا. بابا، لماذا يقف البوابون بجوار الأبواب؟ لكي يمنعوا اللصوص من الدخول؟
أحس وكيل النيابة بأنفاس سيريوجا على وجهه، وكان خده يلمس شعره بين الحين والحين، فأحس في قلبه بدفء ونعومة، كأنما لم تكن يداه فحسب بل وروحه كلها تستلقي على مخمل سترة سيريوجا. وحدق في عيني الصبي الواسعتين السوداوين، فخيل إليه أنه قد أطلت عليه من الحدقتين الواسعتين أمه وزوجته وكل من أحبهم في يوم ما.
وقال في نفسه: "فلتحاول إذن أن تجلده.. هيا ابتكر عقابا لو استطعت ! كلا، أين نحن من المربين. قبلا كان الناس بسطاء، يفكرون أقل، ولذلك كانوا يحسمون القضايا بجرأة.. أما نحن فنفكر أكثر من اللازم، والمنطق قد اغرقنا تماما.. كلما كان الانسان أكثر تطورا وتفكيرا وغوصا في دقائق الأمور ، أصبح أقل جرأة وأكثر وسوسة، واشد وجلا في التصدي للمسألة. وبالفعل، لو أمعنا التفكير، فأية شجاعة وثقة في النفس ينبغي أن تكون لدى المرء لكي يقدم على تعليم الآخرين، والحكم عليهم، وتأليف الكتب السميكة..".
ودقت الساعة العاشرة.
فقال وكيل النيابة:
- حسناً يا بني، حان وقت النوم. ودعني وانصرف.
فعبس سيريوجا وقال:
- لا يا بابا. سأبقى قليلا. احك لي شيئا . احك لي حكاية!
- طيب، لكن بعد الحكاية ستذهب إلى الفراش فورا.
كان من عادة يفجيني بتروفتش في الامسيات الخالية أن يحكي الحكايات لسيريوجا. ومثل معظم الاشخاص العمليين لم يكن يحفظ قصيدة شعر واحدة، ولا يذكر حكاية واحدة، ولهذا كان يلجأ إلى الارتجال في كل مرة. وفي العادة كان يبدأ بالعبارة التقليدية: "كان يا ما كان، في سالف العصر والأوان"، ثم يحشد كمّا من الهراء البرئ ولا يعرف أبدا عندما يبدأ كيف سيكون وسط الحكاية ونهايتها. كان يعتمد على الحظ والبديهة في رسم الصور والأشخاص والظروف. أما الموضوع والموعظة فينبثقان تلقائيا، دون علاقة بارادة الراوي. وكان سيريوجا يهوى كثيرا هذه القصص المرتجلة، ولاحظ وكيل النيابة أنه كلما جاء الموضوع بسيطا دون تعقيد، كان تأثيره على الصبي أقوى.
وبدأ يحكي وقد رفع نظره إلى السقف:
- اسمع ... كان يا ما كان، في سالف العصر والاوان، كان هناك ملك عجوز عجوز، بلحية شيباء طويلة و ... وبشوارب هائلة. وكان يعيش في قصر زجاجي يلمع ويتلألأ في الشمس مثل قطعة كبيرة من الجليد النقي. أما القصر يا أخي فكان وسط حديقة ضخمة، حيث كانت تنمو ماذا؟.. أشجار البرتقال.. والكمثري.. والكرز.. وتزهر أزهار الأقحوان، والورود، والسوسن، وتنشد الطيور الزاهية الألوان... نعم.. وكانت تتدلى من الاشجار أجراس زجاجية صغيرة، وعندما تهب الريح، ترن بصوت رقيق، يخلب الألباب. فالزجاج يصدر صوتا أرق وأنعم من المعدن.. حسناً، وماذا كان هناك أيضاً؟ كانت النافورات تتدفق في الحديقة... أتذكر النافورة التي رأيتها في دار خالتك سونيا الريفية؟ مثلها بالضبط كانت النوافير في حديقة الملك، ولكنها أكبر بكثير، وكانت تيارات الماء المتدفقة منها تصل إلى قمة أعلى شجرة حور...
وفكر يفجيني بتروفتش قليلا ثم استطرد:
- وكان لدى الملك العجوز ابن وحيد، هو وريث العرش والمملكة . كان صبيا صغيرا هكذا مثلك. وكان ولدا طيبا. لم يكن يتدلل ابدا، وكان ينام مبكرا، ولا يلمس شيئا على المكتب... وعموما كان ولدا شاطرا. لم يكن يعيبه الا شي واحد: لقد كان يدخن...
أصغى سيريوجا بتركيز وهو يحدق في عيني أبيه بعينين لا تطرفان . ومضى وكيل النيابة يحكي وهو يفكر: "وماذا بعد؟" وبعد أن لت وعجن كثيرا، كما يقال، انهى الحكاية هكذا:
- ومن التدخين مرض ولي العهد بالسل ومات وهو في العشرين من عمره. وأصبح الملك العجوز، المريض المهدم، بلا معين. ولم يعد هناك من يرعى شئون المملكة ويحمي القصر. فجاء الأعداء وقتلوا الملك العجوز، وهدموا القصر، ولم يعد فيه الان كرز أو طيور أو أجراس... هكذا يا أخي...
بدت هذه النهاية ليفجيني بتروفتش نفسه مضحكة وساذجة، إلا أن الحكاية بمجملها تركت في نفس سيريوجا أثرا قويا. وعاد الحزن وشيء أشبه بالرعب يلف عينيه. وظل حوالي دقيقة يحدق في النافذة المظلمة وهو مستغرق في التفكير، ثم انتفض وقال بصوت متهدج:
- لن أدخن مرة ثانية...
وبعد أن ودع أباه وانصرف لينام، أخذ الأب يذرع الغرفة بهدوء من ركن لركن وهو يبتسم.
وفكر في نفسه: "قد يقال أن ما أثّر عليه هو الجمال والشكل الفني. فليكن، ولكن هذا ليس بشيء مطمئن. انه مع ذلك ليس وسيلة حقيقة... لماذا ينبغي تقديم الموعظة والحقيقة ليس بصورتهما المجردة، النيئة، بل بالخلطات، وبقشرة سكرية مذهبة كحبات الدواء؟ ليس هذا طبيعيا.. انه خداع ، تزوير.. تحايل.."
وتذكر القضاة المحلفين، الذين لا بد أن تسمعهم "خطبة عصماء" ، وعامة الناس الذين لا يستوعبون التاريخ الا من خلال الملاحم والسير والروايات التاريخية، وتذكر نفسه، هو الذي استقى خبرة الحياة لا من المواعظ والقوانين، بل من الحكايات والروايات والاشعار...
"ينبغي أن يكون الدواء حلوا، والحقيقة جميلة.. وهذه النزوة قد أباحها الانسان لنفسه منذ عهد آدم.. وعموما.. ربما كان كل ذلك طبيعيا وهكذا ينبغي للأمور أن تكون... وهل تخلو الطبيعة من الخداع المفيد والأوهام...".
وشرع يعمل، بينما ظلت الأفكار المنزلية الكسولة تهوم في رأسه طويلا. ولم تعد أنغام العزف تسمع ولكن ساكن الطابق الثاني ظل يخطو من ركن لركن...